
مشاركة:
معروف عن هذه المنطقة صخبها في الصباح والمساء. إنها مشهورة بضوضائها الدائمة. الضاحية تعودت على حياة حيوية، تتكرر في كل يوم، حتى أيام الآحاد. ضجيج متقطع. أصوات الباعة المتجولين،
وسائقي السيارات. أصوات الأغاني تتسلل بقوة من المحال. ضحك، حزن، غضب. حياة.
لبست شوارع الضاحية، أمس، الثوب الأسود. ليس في الشكل فحسب، بل في المضمون أيضاً: صمت حزين يلف شرايين المنطقة، من «برج البراجنة» إلى الرويس، مروراً بالغبيري وجادة السيد هادي نصر الله، وصولاً إلى حارة حريك… هناك، حيث رقد السيد محمد حسين فضل الله. هناك، حيث الدموع تذرف بين الحين والآخر. حزن شديد.
تلاشت معالم الحياة العادية التي كانت تسكن أهالي الضاحية، أمس. وخيم عليها حزن أبكم. آيات من القرآن الكريم تصدح في الأفق. نساء متشحات بالسواد. صور فضل الله منتشرة على زجاج السيارات والدراجات النارية. صور المرجع تملأ الجدران. هدوء مضطرب، معطوف على آيات القرآن.
يتظلل رجل ستيني بفيء إحدى الشرفات في منطقة الغبيري، متكئاً على عكازه الخشبي أمام عربة اللوز التي يملكها. علامات التعب والإنهاك بادية على محياه. هي علامات الحزن. يحاول الرجل كبح دموعه، عندما يفتح الورقة التي بين يديه. يحدج الورقة بنظرات خاطفة، لتغرورق عيناه بالدموع. «بكم الكيلو يا حاج؟»، يسأل أحدهم. لكن الحاج لا يسمع. ولا يريد حديثاً.
يحاول الزبون معرفة سبب تجاهل الرجل له، فيرمق الورقة الماثلة بين يديه، ليدرك أنه حزين على رحيل فضل الله. «كلنا حزنّا عليه يا حاج. هذه هي الحياة. أنظر إلى الصورة. إنه مبتسم لقدره». لا جواب من بائع اللوز. يصرّ الزبون على مواساة الرجل، فيقول: «لقد ألغى شقيقي حفل زفافه اليوم حزناً على السيد. لكنه أكمل عمله. لماذا لا تفك حزنك، ولو قليلاً، لتستطيع إكمال عملك؟». لا جواب. يغادر الزبون.
تفصل أمتار قليلة بين مسجد «الإمامين الحسنين»، وبين شارع حارة حريك الرئيسي، حيث أغلق المنفذ المؤدي إلى المسجد أمام السيارات. الهدوء نفسه ينسحب على هذه البقعة الخارجية، لكن اللون الأسود هنا أكثر انتشاراً. تذيل هذه العبارة صورة فضل الله «أستودعكم الله»، ملوحاً بإحدى يديه. أسفل الصورة، وقف السيد علي فضل الله، نجل العلامة الكبير، يتقبل التعازي.
اعتاد السيد شفيق الموسوي، أحد المقربين من فضل الله، أن يختم حديثه عن البرنامج اليومي في المسجد، بجملة: «.. وأطال الله بعمر السيد». تغيرت العبارة في أثناء الوعكة الصحية التي ألمّت بفضل الله، لتصبح: «ساعد الله مولانا على الشفاء». الموسوي واقف أمام الناس في المسجد الآن، معلناً لهم موعد التشييع. يبلغ الرجل منتهى الحديث بصوت متهدج. هو لا يعرف أي عبارة يستخدم. لا يقوى على نعي مولاه.
يتأثر أحد الشبان بالمشهد، فيخرج مصطحباً صديقه إلى الباحة الخارجية. تغرورق عينا الشاب بالدموع، قائلاً لصديقه: «اليوم.. فقدت والدي. والله يا حسن. الآن، عرفت معنى اليتم». ترعرع الشاب في جمعية فضل الله التي تحضن الأيتام منذ صغره. وشب على حبّ فضل الله. يقول إنه كان يرى في وجهه روح الأبوة التي كان يفتقدها منذ أن أبصر النور. يقول إن النور أصبح ظلاماً. يعود الشاب أدراجه إلى قاعة المسجد، ويضطجع على كرسيه متأملاً صورة والده.
يستمر توافد المعزّين بمشهد يحاكي حركة خلية النحل. يقف حسن سرور، ابن السبعة عشر عاماً، إلى جانب باب المسجد العملاق. سرور مزهو بالدروس التي تعلمها من فضل الله، يقول إنه قرأ في كتاب لفضل الله ما مفاده: «ليست العداوة والصداقة قضية كلمات ومشاعر، هي قضية مبدأ. فالصديق هو من يريد لك الخير، والعدو هو من يريد لك الشر».
يقول سرور انه لجأ، أكثر من مرة، لـ«السيد» شاكياً له بعض المشاكل التي تواجهه، فكان يخرج من عنده مسروراً. يتذكر الفتى مقطعاً آخراً من الكتاب نفسه: «أعطوا العاطفة جرعة من العقل، وأعطوا العقل جرعة من العاطفة، حتى يلين ويرق ولا يكون جامداً». يكتفي الفتى بهذا القدر من الذكريات، متذرعاً بأنه مضطر للعودة إلى داخل المسجد. ضاق صدره من استذكار ما يحزنه.
منذ خمسة عشر عاماً، تتلمذ الشيخ عباس النابلسي، نجل رئيس «هيئة جبل عامل»، على أيادي تلامذة فضل الله، حتى صار تلميذاً عند «السيد» مع مرور السنين. آخر زيارة للنابلسي كانت في الشهر الفائت، عندما وفد إلى المستشفى الذي تلقى فيه فضل الله العلاج. «عمد السيد إلى الاستفسار عن كل الشبان وصحتهم، قبل أن أسأله عن صحته»، يقول النابلسي.
لتلامذة فضل الله علاقة خاصة به. هم يعرفون كيف يفكر، ماذا يحب، وماذا يكره. لا، هو لا يكره، يقولون. يتحدث الثلاثيني عن شغف فضل الله بالقراءة، لافتاً إلى أنه طلب من مرافقيه، في أصعب اللحظات المرضية التي مرّ بها مؤخراً، أن يجلبوا له كتاباً معيناً. كان يقرأ حتى اللحظات الأخيرة من مماته.
يقول النابلسي، كما يقول عارفو فضل الله، إن «الخلاف مع السيد مثمر، وخلافه مع الآخرين مثمر أيضاً. هو يحب النقاش، والجدال، حتى الرمق الأخير. كان يضخ بيئة علمية متجددة، تسمح للمبدعين بممارسة حريتهم الفكرية وانتماءاتهم، من دون تزمت».
النابلسي تعلّم، من بين ما تعلم من فضل الله، أن يتجرأ على طرح المواقف. يقول: «لقد رحل الرجل الحصين. لقد رحل».