
مشاركة:
لن يمضي وقت طويل قبل أن يعود نقاش القاعدة والحركات الجهادية في لبنان إلى الواجهة، فيما يتّجه اللبنانيون،
بفعل انقسام سياسي قاتل، إلى نقاش الجهادية ونشاطاتها من موقع وضعها في سوق الصرف المحلي والإقليمي.
فإذا ما قيل إن القاعدة موجودة في لبنان، يتحول النقاش إلى «من هو صاحب المصلحة في إشاعة أجواء مشابهة»، ويبدأ فريق في نفي وجود القاعدة والقوى الجهادية، ووضعها في خانة أن سوريا وحلفاءها، يروّجون ويسهلون حركات تخريب من أجل إطاحة منجزات ثورة الأرز.
وإذا ما قيل إن القاعدة غير موجودة، والمجموعات القائمة محدودة ومحاصرة، فإن الطرف المقابل سيبدأ باتهام قوى الأكثرية بأنها تنفي الواقع لمنع انفضاح دورها في تحفيز مجموعات الجهاد في لبنان. أما ما بين هذا وذاك فإن القاعدة تتلمس طريقها في الأزمات القائمة، في بلد بدأت مكونات حياته السياسية تشبه الأوراق الصفراء، التي تنتظر عاصفة لتلمّها عن الأرض وتطيحها بعيداً في الفراغ.
منذ حوالى تسعة أعوام، فقد التنظيم الدولي للقاعدة كل موطئ قدم آمن له في هذه الأرض، وأطاح حتى قواعده الجغرافية والبشرية المتماكسة، منتقلاً من هجرة إلى أخرى، قام بها الشيخ أسامة بن لادن وصديقه الحليف الدكتور أيمن الظواهري، ولم يعد للرجلين ولا لتنظيمهما، من راعٍ وداعم إلا الله والتقاطعات السياسية أو الخلافات الدموية.
لم تعد المملكة العربية السعودية ـــــ في كيانها الأعلى والرسمي ـــــ راغبة في سماع المزيد عن تمويل الجهاد والقتال من أجل الحرية، ولم تعد اليمن، ولا السودان ولا باكستان ولا حتى أفغانستان بقادرة على حمل تنظيم أقلّ ضرباته تفجير مدنيين بحكم شرعي يكفّرهم، أو تفجير مدمرات في المرافئ المضيفة.
عادت القاعدة غريبة في أراض معادية، ومع الأعوام التي تلت حرب أفغانستان صار الجهاز القيادي في التنظيم، وخاصة المجموعة المحيطة بالظواهري، أقرب إلى أرض الواقع، وبدأت تبني تكتيكات في العمل، تتيح لها الحفاظ على وجودها، وهامش ولو بسيط في تنفيذ أعمالها القتالية.
صار يمكن للتنظيم أن يستفيد من حاجة إيران إلى توجيه رسائل للأميركيين في العراق، أو أفغانستان، فتستفيد القوى الجهادية في فسحة من التفاهم الضمني (وربما غير المباح أو غير المنسّق حتى) مع طهران حتى تعمل بكثافة وتستغل كل المنافذ لضرب الأميركيين في العراق، كما أمكنها الاستفادة من فتح سوريا خطوط انتقال نحو العراق حتى ترسل مئات من الكوادر إلى هناك، ويتسللوا عبر غضّ نظر رسمي سوري، قد لا يكون يعلم حقيقة مَن مِن بين المتسللين هو قاعديّ، ومن هو بعثي.
وفي هذا السياق، تستفيد القاعدة من فراغات سياسية في مناطق مثل لبنان حيث انتشرت القوى الجهادية، والسلفية عامة، خلال الأزمة السياسية ما بين عامي 2005 و2007، وكانت تجربة فتح الإسلام إحدى التجارب المتطرفة حتى بنظر تنظيم القاعدة، إلا أن باقي الحركة الجهادية لم يتوقف في البلاد.
ولم تنته الأزمة السياسية بعد، وترك النظام السياسي في البلاد ثُغَراً يمكن لكل من يرغب ويشاء ويملك القدرة، المشاركة في لعبة أمنية ـــــ سياسية تأخذ البلد إلى مغامرات قاتلة. كل ذلك وأبواب العمل الجهادي في لبنان تتوسع، والقوى الأمنية تعالج جانباً بينما العلاج الكامل، من الحوار السياسي مع الجهاديين إلى إقامة نظام سياسي متوازن بنفسه (وليس بالخارج وبالامتدادات الطائفية) غير متوافر.
ومن يعلم اليوم ما يحصل في منازل الجهاديين (وبعضهم من مقاولي الجهاد الذين لا يتورعون عن التعامل مع أجهزة الدولة الأمنية، وفي الوقت عينه تحصيل منافع عالية من إيواء كوادر جهادية في منازلهم)، يعرف أنّ الأهداف لم تعد تقتصر على ضرب الجيش اللبناني واليونيفيل، بل تستهدف بعض السياسيين ومؤسسات رسمية.
الجهاديون ينشطون في لبنان، بغضّ النظر عن البازار السياسي الذي يمكن أن يبيع أو يشتري ملفّهم سياسياً وأمنياً، وبغضّ النظر عن أن اعتقال المئات من الشبان وإبقاءهم موقوفين في السجون لأعوام دون محاكمات لم ينتج إلا المزيد من القهر.