
مشاركة:
للقرى التي زُنرت بالنار على مدى ثلاثة وثلاثين يوماً من العدوان قصصها. كان لأحراجها وخللها وجلولها وحتى الأثلام تفاصيلها الخاصة.
هناك روى قادة عن معارك كبيرة خاضها المقاومون وانتصروا فيها. ومنها وعبرها ذاع صيت مناطق بأمها وأبيها. من مارون الراس إلى بنت جبيل إلى عيناثا ومربع التحرير على كتفها، مروراً بإنزال الغندورية وصولاً إلى أسطورتي وادي الحجير وسهل الخيام والخيام نفسها.
ولكل من المقاومين الذين دفعوا الغالي لصناعة النصر الجماعي قصته الفردية التي ذابت وأسدل الستار عليها، خاصة عندما عاد هؤلاء من الحرب سالمين. عرف الناس وعرفنا معهم الشهداء من بينهم كأسماء، وعرف البعض ببطولات هذا الشهيد أو ذاك، لكن بقي الجنود المجهولون في الظل وراء ألقاب يسمونها جهادية أو حركية أو حزبية، لا يهم، فالأهم أن كل واحد منهم أدى الدور المطلب منه.. وأكثر.
نحن اليوم حين ننقل تفاصيل خاصة من وقائع مواجهات بعض المقاومين كأفراد، فإننا لا نقارب الأسماء الحقيقة ولا ملامح الوجوه.. سيبقون كما كانوا دائماً غارقين في السرية يستكملون حياة عادية كما كل الناس، إلى أن تكشف الشهادة ما كان مستوراً.
مقاوم رشاف
طُلب منه الاقتراب صوب المنازل الثلاثة حيث تمركزت قوات إسرائيلية في اليوم الثلاثين من الحرب.
كان عناصر الرصد قد أشاروا إلى وجود دبابتي ميركافا وجرافة عسكرية قرب بركة دبل القريبة.
الطيران الحربي أغار على العديد من المنازل الآهلة بالمدنيين فآثر أهل رشاف النزوح عنها، إلا قلة آثرت البقاء مع المجاهدين ومنهم «الحاجة رشاف» كما يسميها المقاوم، أصرت على البقاء كي تطبخ وتخبز للشباب والصامدين، و«روحي مش أغلى من أرواحكم»، قالت للمقاومين الذين طلبوا منها المغادرة.
وصل «مقاوم رشاف» إلى مدخل المنزل الذي تتمركز فيه قوة عسكرية. من أصواتهم، شعر أنهم يتصرفون وكأن لا أحد غيرهم في المكان، فرابض ينتظر خروجهم ليفتح عليهم النار.
خمس دقائق ونفد صبره فهجم على نافذة البيت يرمي جنديين كانا يطلان منها.
بسرعة استدار إلى الناحية الثانية من البيت ورمى جنديين آخرين كانا يحرسان عند الشرفة. ومن قوة الإسناد المقاومة القريبة أصابت قذيفة أولى ثم ثانية المنزل إصابتين مباشرتين.
هنا كان على مقاوم رشاف أن يتمركز في نقطة ثانية خصوصاً أن قوة إسرائيلية أخرى قد تقدمت باتجاه مسجد البلدة وبدأت طائرات الاستطلاع تحلق على علو منخفض وتلاحق المقاومين بصواريخها من مكان إلى آخر زارعة الدمار من ورائهم ومن أمامهم.
نفدت ذخيرة مقاوم رشاف فانسحب إلى مجمع أبو ذر في البلدة. هناك التقى بشقيقه المقاوم الذي كان يرمي الجنود المتجمعين بالنيران. طلب إليه أن ينتبه إلى نفسه فابتسم له وأدار وجهه ليكمل مهمته.
ثوان وسقط صاروخ من «الإم.كا» بين الشقيقين المقاومين فأحدث ساتراً كثيفاً من الدخان والغبار.التصق وجه مقاوم رشاف بالأرض وبدأ ينادي على شقيقه من دون أن يلقى جواباً. حمل نفسه ناحيته وشاهد الدماء «تشخب» من جراحه البالغة. كان شقيقه قد استشهد للتو. خمس دقائق كانت كل الوقت الذي أمضاه بقرب أخيه يتحسسه ويمسح على وجهه ويمسد شعره بيديه. بعدها التحق ببقية المقاومين.
يقول ان الدمع «ماج» في عينيه، وانه طلب سيجارة من مقاوم آخر وجعل ينفخ عبرها نيران حزنه الداخلي العميق.
حزن أوقد فيه عزيمة استكمال مهماته فتزود بذخيرة جديدة وبقذائف وعاد إلى موقعه.
بناء على إشارة قائد مجموعته غازي جفال انتقل مقاوم رشاف إلى الجهة الأخرى مع بقية أفراد المجموعة. كان الإسرائيليون يبعدون عنهم «اقل من سبعة أمتار». همّ المقاومون بالخروج من نقطة تمركزهم في احد البيوت حين استدار قائدهم جفال وطلب منهم أن ينتظروه قليلاً وبيده مسبحته. خرج القائد وبلحظة سقط صاروخ من طائرة استطلاع أمام المنزل. صرخ مقاوم رشاف ينادي قائده فلا من مجيب. أعاد العناصر التمركز في نقطة أخرى قبل أن يعرفوا مصير جفال.
استمرت مواجهات رشاف ما بين سلاح رشاشي ومدفعي و«كورنيت» يمزق الجيل الرابع من الميركافا إلى أن كان وقف إطلاق النار. عاد افراد المجموعة للبحث عن القائد غازي جفال ليجدوه شهيداً بالقرب من المنزل الذي استمهلهم البقاء فيه وخرج بمفرده ليلقى مصيره. وجدوه هناك وبيده مسبحته.
بعد وقف إطلاق النار سيدفن مقاوم رشاف شقيقه وقائد مجموعته اللذين لم يفصل بين استشهادهما إلا لحظات.
دحنون
دحنون، هو الاسم الجهادي لمقاوم كان مكلفاً بالدفاع عن وطنه في معركة بلدة الطيبة. يبلغ دحنون 28 عاماً من العمر. وأتم في عدوان تموز 2006 سنواته العشر في المقاومة.
كان دحنون مقاوماً أساسياً في الطيبة وكان قائد مجموعة فيها. تشكل البلدة خطاً رئيسياً في محور تقدم وادي الحجير، وبالتالي محور تقدم الإسرائيليين نحو نهر الليطاني.
وحين نقول الطيبة، فإننا نقصد مشروع الماء في البلدة وهو موقع استراتيجي ومهم لقوات الاحتلال التي كانت قد اتخذته موقعاً عسكرياً لها إبان احتلالها لما عرف بالشريط المحتل قبل تحرير العام 2000.
كشف مقاومو الطيبة القوات الإسرائيلية، وعديدها حوالى ستين جندياً، وكذلك علموا بمواقع انتشار أفرادها في مواقع عدة.
أهم ما فعله المقاومون أنهم لم ينفعلوا بكشف الجنود والقوة العسكرية بل أخذوا وضعيتهم بهدوء وفقاً للخطة الموضوعة التي قضت بمهاجمة الإسرائيليين لمجرد تموضعهم في بيوت البلدة.
في مشروع مياه الطيبة انتظرت ثلاث مجموعات مقاومة القوة الإسرائيلية معتمدة هجوماً قوياً جداً على طريقة «الإغارة العسكرية» على المنازل التي لجأ إليها الإسرائيليون.
في أحد هذه المنازل وحيث تمركزت القوة الأكبر، استمر الاشتباك على مسافة خمسين متراً بأسلحة صاروخية وبالرشاشات المتوسطة لمدة ربع ساعة من الزمن ثم تطور إلى مست وى الالتحام.
بعد 15 دقيقة من المواجهات تموضع المقاومون وعادوا صوب البيت بعدما «خرس» رصاص القوة الإسرائيلية وجنودها.
تقدم دحنون نحو مدخل البيت ومن ورائه المقاومين أفراد مجموعته. في المدخل تواجه مع جندي تحت بيت الدرج وأصيب دحنون في صابونة الركبة بشكل أساسي وبإصابات خفيفة في أنحاء أخرى من جسده.
لم يقل دحنون لمجموعته انه مصاب لكي لا يربكهم أو يورطهم بمحاولة سحبه، وطلب منهم الالتحاق بمجوعة ثانية والانكفاء إلى نقطة أخرى، وبدأ هو بالانسحاب زحفاً. كان ذلك في اليوم السادس عشر للعدوان.
رمى دحنون ذخيرته الثقيلة ولم يترك إلا ما يمكنه من الدفاع عن نفسه لكي لا يقع في الأسر، واستمر بالزحف.
تعرف المجموعة أن دحنون أصيب عندما لا يلتحق بأفرادها مساء. سيحاول مقاومان البحث عنه لإسعافه وإنقاذه ولكنهما يشتبكان مع مجموعة إسرائيلية صادفاها في طريقهما ويستشهدان.
ليلاً عطش دحنون ولا مياه معه. بينما يتابع انسحابه بين القوات الإسرائيلية في البلدة جاع أيضا ولا طعام أيضا سوى نبات السماق في الأرض فأكل منه.
في اليوم الثاني أكل ما صادفه من أعشاب في الطبيعة وفي الثالث وجد حقلة خضار «سحرى» فتقوَّت مما تبقى منها في شمس تموز.
على مستوى القيادة التي انشغلت بمصير دحنون، جرى نعيه مرات عدة والعودة عن النعي حين يظهر على «السمع»، أي يتواصل معهم عبر الأجهزة.
كان دحنون يغيب عن السمع بسبب غيابه عن الوعي إثر نزف جروحه، وخصوصاً إصابته في الركبة. يغيب عن الوعي لمدة خمس ساعات ويصحو غير دار بوضعه ولا بموقعه. لحظات قبل أن تمر على استعادته وعيه ليتذكر دحنون انه في معركة مع الإسرائيليين وانه مصاب في ركبته إصابة بالغة تمنعه من السير.
في اليوم الثالث وصل دحنون إلى منزل في الطيبة من أربعة طوابق. دخل إلى الطابق السفلي فوجد ماء ولم يجد طعاماً. وهو في المنزل جاءت قوة إسرائيلية وتمركزت في الطابق الثاني، وهو من دون ذخيرة ومصاب ومتعب من قلة الماء والطعام ومن كثرة الدم النازف.
في اليوم الرابع كشف المقاومون القوة وبدأوا يمطرونها قصفاً إلى أن انسحبت من البيت.
مع انسحاب القوة جاءت مجموعة من المقاومين وسحبت دحنون جريحاً إلى مكان آمن في قلب بلدة الطيبة حيث جرى إسعافه بما تيسر من دون أن يعالج جذرياً إلا بعد توقف العدوان.
يفرح دحنون حين يعرف أن السيد حسن نصر الله ومعه قادة من الصف الأول في المقاومة كانوا يتابعون وضعه وهو جريح تائه لمدة أربعة أيام وحده، لكنه يحزن لأنه أقلقه عليه. أما عن لقائه بالسيد بعد انتهاء الحرب فيجيب عليه بالصمت لأنه لا يعرف كيف يعبر عن إحساسه في تلك اللحظة.
مهدي وأبو مهدي
تبعد القنطرة مسافة كيلومترين اثنين عن بلدة الطيبة غرباً، وهي تقع على محور التقدم نفسه نحو وادي الحجير.
وبالإضافة إلى تقدمه نحو الليطاني أراد الإسرائيليون إسكات الرمايات الصاروخية من البلدة ومعها صواريخ «الكورنت» التي تدمر الميركافا وكذلك للقضاء على المقاومين أنفسهم.
حصلت مواجهة القنطرة التي خاضها، من بين من خاضوها، المقاومان مهدي وأبو مهدي، وهذان اسماهما الجهاديان، حصلت في الساعات الستين الأخيرة للعدوان.
كان مع مهدي وأبي مهدي المتمركزين في احد منازل القنطرة عبوتان. الأولى ضد الدروع فزرعاها على طريق توقعا أن تسلكها الميركافا والثانية ضد الأفراد، سيستعملانها بطريقة لا تتماشى مع القواعد العسكرية للمواجهات، أو يمكن القول بطريقة «غير مقبولة عسكرياً»، كما يصفها قائد في المقاومة في حديثه لـ«السفير».
والطريقة غير المقبولة هي قيام مهدي وأبي مهدي بزراعة العبوة ضد الأفراد في المنزل الذي كانا فيه.
قام مهدي وأبو مهدي بإقفال ثلاثة أبواب من أبواب المنزل الأربعة بطريقة لا تفتح إلا إثر تفجيرها، وتركوا الباب الرابع المواجه للعبوة المزروعة مغلقاً من دون إقفاله.
وبجانب العبوة وبالتحديد على مقلب عمود «الإسمنت المسلح» تمركز مهدي يحميه العمود من العبوة على الجانب الآخر، فيما أمسك أبو مهدي بزر التفجير وكمن على بعد ستة أمتار من مهدي والعبوة.
نحو البيت تقدم خمسة عشر جندياً من لواء نحال للمشاة. وصلوا إلى الأبواب المقفلة ولم يتمكنوا من فتحها فقصدوا الباب الرابع المغلق غير المقفل. وبدورة واحدة لقبضة الباب انفتح المكان ليدخل الجندي الأول والثاني، فأشار مهدي لأبي مهدي أن يفجر فأشار إليه بالصبر ريثما يدخل عدد أكبر.
كانوا أربعة جنود داخل الغرفة وعدد آخر في الباب خلفهم بقية المجموعة عندما ضغط أبو مهدي على زر التفجير.
غاب المقاومان عن الوعي لمدة أربع دقائق واستفاقا بعدها ليجدا المجموعة تتخبط بإصاباتها. أفرغ كل منهما «مشطاً» من الرصاص بمن رأياه من الجنود وفتحا أحد الأبواب الثلاثة المقفلة من الداخل وغادرا المنزل تاركين الجنود يتخبطون بجرحاهم وقتلاهم.
في الخارج وجد مهدي وأبو مهدي دبابتي ميركافا أمام المنزل، ومن بين الدبابتين التي كان جنودهما مشغولين عنهما، انسحب المقاومان باتجاه منزل آخر آمن في القرية.
يقول القائد في المقاومة إن تلك المواجهة أربكت الإسرائيليين وتسببت بأكثر من مواجهة بين مجموعات إسرائيلية داخل البيوت وخارجها. كما عدلت إسرائيل في خطتها لدخول القنطرة وحاولت التقدم من أطرافها لا من داخلها. أما مهدي وأبو مهدي فقد خرجا في ثلاثة وثلاثين يوماً من المواجهات سالمين.