مشاركة:
كتب بن غوريون مخاطبا الاسرائيليين بعد توقيع اتفاق الهدنة عام 1948: إن ما تحقق لنا هو نصر عظيم وتاريخي للشعب اليهودي كله وكان أكبر مما تصورناه وتوقعناه.
ولكن اذا كنتم تعتقدون أن هذا النصر قد تحقق لنا بفضل عبقرياتكم وذكائكم فانكم على خطأ كبير. إني أحذركم من مخادعة أنفسكم. لقد تحقق لنا ذلك لأن اعداءنا يعيشون حالا مزرية من التفسخ والفساد والانحلال’.
اليوم اسرائيل غاضبة أشد الغضب من اتفاق المصالحة بين ‘فتح’ و’حماس’، هالها أن ترى محمود عباس في غزة سعيا الى تأليف حكومة وحدة وطنية. وتؤازرها في هذا الغضب الى حد الوقاحة العارية، واشنطن. فما كاد موسى أبو مرزوق يصافح عزام الاحمد حتى انهالت التهديدات والاجراءات العقابية الاميركية والاسرائيلية على الفلسطينيين والتي بلغت حد التوعد باسقاط السلطة واعادة الاحتلال العسكري المباشر للضفة والقطاع.
اسرائيل وأمها الحنون غاضبتان، لانهما تدركان معاني ان يتحد الفلسطينيون بعدما عملتا طويلا على تكريس الشرذمة والتمزق في الجسم الفلسطيني واعلان الطلاق البشع بين رام الله وغزة وتعزيز الفرقة بين الاخوة الاعداء. الخلاف الفلسطيني لم يكن وحده الكابح لحل عادل بل كان ايضا رصاصة الرحمة في رأس القضية. أما الوحدة الوطنية التي تفترض تباعا توافقا على هيكل تنظيمي موحد وبرنامج سياسي مماثل، فمن شأنها ان تحيي الروح في القضية وتبعث الامل في السير على طريق الحرية.
ولعل أكثر ما تخشاه اسرائيل وواشنطن ليس انعكاسات المصالحة على الساحة الداخلية الفلسطينية، بل على المدى العربي الارحب الذي نسي فلسطين والقضية الاساس وانجرّ الى زواريب التقوقع والانعزال والفتن الطائفية والصراعات الجانبية. فإذا ما اعاد اهل القضية لهذه القضية اعتبارها وفرضوا مكانتها في الوجدان العام والسياسة لتغير المشهد الرمادي الداكن في المنطقة.
المصالحة الفلسطينية نقطة ضوء في الليل العربي الكالح، ربما فرضها الاذلال المقيت الذي مارسته اسرائيل وواشنطن على البقية الباقية من منظمة التحرير في عملية التفاوض، والتسوس الذي نخر عمادها النضالي. وربما فرضتها ايضا الارتباكات الداخلية في ‘حماس’ التي أرهقها ضياعها السياسي ورهاناتها الخاسرة. وربما كانت رقصة المذبوح من الالم للفصيلين معا. لكن اللافت ان أيا من الانظمة العربية، قديمها والجديد، لم يسارع الى تبني الاتفاق ورعايته وترويجه كما جرت العادة، لا بل اعتصمت كلها بحبل الصمت والتكتم. فكيف لهذه الانظمة العاجزة عن حماية نفسها ومواطنيها ان تحفظ القضية التي عمدت هي نفسها الى تشويهها ودفنها؟
وهكذا ليس على الاجيال الجديدة من المحتلين ان تقلق، ذلك ان ‘الجيران’ يتكفلون التطوع لإطفاء هذا البصيص مثلما نجحوا في السابق في ازالة فلسطين من وجدان شعوبهم، وان يحققوا لهؤلاء ما حققه اسلافهم لبن غوريون.