مشاركة:
تواصل السياسة الاوروبية استعادة شيء من خصوصيتها وبريقها في الشرق الاوسط بعد حقبة طويلة من الهيمنة الاميركية عليها
التي جعلت الاوروببين في لحظة
الذروة الاميركية يتحولون الى مجرد بيادق فوق رقعة شطرنج، كان يتحكم بها مزاج الرئيس السابق جورج بوش.
بدايات «الفطام الاوروبي» كانت قد ظهرت مع وصول نيكولا ساركوزي الى قصر الاليزيه خلفا للرئيس جاك شيراك، الذي ذهب بعيدا في مغالاته السياسية واندفع وراء حليفه بوش في محاصرة سوريا ومعاداة ايران ومخاصمة شريحة واسعة من اللبنانيين، فكان اول من دفع ثمن ارتطام المشروع الاميركي بالوقائع الموضوعية في المنطقة، الى ان جاء ساركوزي بمقاربة جديدة للملفات الساخنة في الشرق الاوسط قادته الى الانفتاح على دمشق وفتح ابواب باريس امام الرئيس بشار الاسد، بموازاة إعادة التموضع في لبنان حيث اتخذت الادارة الفرنسية مواقف أكثر توازنا حيال إشكاليات الساحة اللبنانية، كان آخرها الموقف الصادر عن مصدر رسمي في الاليزيه أكد «وقوف بلاده على مسافة واحدة من اللبنانيين»، الامر الذي رحب به «حزب الله».
ومع مغادرة التلميذ النجيب الآخر للادارة الاميركية السابقة رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير السلطة، دخلت لندن بدورها في مرحلة مختلفة، لكن الأداء البريطاني المتجدد لم يأخذ مداه بطبيعة الحال، إلا بعد انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة، وهو التحول التاريخي الذي أتاح للاوروبيين ان يلتقطوا أنفاسهم ويعيدوا صياغة سياساتهم في الشرق الاوسط، على قاعدة المعطيات المستجدة من رحيل بوش متأبطا الفشل الاميركي في العراق وأفغانستان، الى الاخفاق الاسرائيلي في حرب تموز والعدوان على غزة، مرورا بنجاح سوريا وإيران في امتصاص مفاعيل الحصار الغربي ـ وبعض العربي ـ الذي ضُرب عليهما.
وقد استفاد الاوروبيون بالتأكيد من الاستراتيجية الجديدة لأوباما والمستندة الى خيار الانفتاح على «محور الشر» ومحاورته، الامر الذي قاد تلقائيا الى توسيع هوامش الحركة أمام العواصم الاوروبية، التي وجدت ان الحكمة كما المصلحة تقتضيان عدم الاستمرار في ضرب الرأس بجدار سميك ومسدود، وخصوصا ان صاحب نظرية الصدام لم يعد موجودا ـ لا هو ولا نظريته ـ في موقع القرار في الولايات المتحدة.
وامتدادا لهذا السياق،كان من البديهي ان يبلغ عصف التحولات الدولية والاقليمية العمق اللبناني، فيُستكمل الانفتاح الاوروبي على دمشق وطهران بمد اليد الى «حزب الله»، باعتبار ان المسار واحد في منطلقاته ومراميه، لا سيما ان «حزب الله» بات يُنظر اليه بصفته لاعباً اساسياً في المنطقة وأحد مهندسي موزاين القوى فيها، وبالتالي فإنه من الطبيعي ان يكون من بين المستفيدين من «عائدات» الاخفاق الاميركي في الشرق الاوسط.
وما ساعد مهمة الاوروبيين الراغبين في إعادة وصل ما انقطع مع «حزب الله»، ان الحزب نجح، عبر تجاربه المختلفة، في تقديم نفسه بطريقة مغايرة عن تلك التي طبعت شخصية وسلوك العديد من الحركات الاسلامية في العالمين العربي والاسلامي، وخصوصا لجهة تمكنه من تحقيق التزاوج بين كونه حركة مقاومة مسلحة وبين نمط عمله البرلماني والحكومي والبلدي، الذي يحظى بتقدير اوساط اوروبية، بحيث لم تجد لندن على سبيل المثال صعوبة في تبرير قرار الحوار مع الحزب، ربطا بحضوره الفعال في الحياة والمؤسسات السياسية.
ولئن كانت بعض القوى في «فريق 14 آذار» تروّج لخطورة فوز المعارضة بقيادة «حزب الله» في الانتخابات النياية المقبلة، لما يمكن ان يرتبه ذلك من تداعيات على علاقة لبنان بالمجتمع الدولي، جاء الرد على تلك المقولة من صميم هذا المجتمع وتحديدا من الاوروبيين، الذين سارعوا الى ترتيب علاقتهم بالحزب قبل اشهر قليلة من موعد الانتخابات، بما يوحي انهم يتصرفون على قاعدة ان المعارضة تملك حظوظا جدية بالانتصار في السابع من حزيران المقبل، ولا بد ـ تبعاً لذلك ـ من خطوة استباقية تهدف الى فتح الخطوط معها منذ الآن، تحسبا لكل الاحتمالات، كما يُستنتج من الاشارات الايجابية التي ترسلها لندن وباريس تباعاً تجاه الحزب.
وهناك من يعتقد ان تتبع خيط الانعطافة الاوروبية حيال «حزب الله» يقود الى «اتفاق الدوحة» الذي شكّل بدلالاته ومضامينه تعبيرا بليغا عن تداعي المشروع الاميركي ومسعاه الى توظيف الساحة اللبنانية في معركته ضد دول الممانعة من سوريا الى ايران وما بينهما، بحيث دشّن هذا الاتفاق مرحلة جديدة فرضت على واشنطن واوروبا، ليس فقط الاعتراف بالوقائع الموضوعية في المنطقة، وإنما ايضا التعايش معها، تماما كما تفعل الآن لندن وباريس.
لكن «حزب الله»، برغم ترحيبه باللغة الاوروبية المرنة في مخاطبته، إلا انه لا يبدو مستعجلا في تطبيع علاقته مع العواصم المعنية، وتفيد المعلومات في هذا المجال ان أي اتصال او اجتماع لم يحصل بعد على أي مستوى بين بريطانيا والحزب، وإن تكن أرضيته قد أصبحت جاهزة، ليقتصر تبادل الرسائل حتى الآن على السلام والتحية. وإذا كانت لندن معروفة بـ»برودتها»، فإن «حزب الله» معروف أيضاً بنفسه الطويل، وهو ينتظر الخطوة البريطانية التالية، في أعقاب قرار استئناف التواصل معه، ليبني على الشيء مقتضاه، علماً بأنه يؤكد تمسكه بخياراته وثوابته السياسية، سواء حصل اللقاء اليوم او بعد حين.
وبحسب المعلومات، حاولت السفيرة البريطانية في بيروت فرنسيس ماري غاي، قبل فتح النافذة الدبلوماسية رسميا على الحزب، ترتيب لقاء بينها وبين أي شخصية يمكن ان تنتدبها قيادة الحزب، مقترحة ان يكون سرياً، لكن طلبها قوبل آنذاك بالرفض القاطع.