
مشاركة:
أنبش بين الركام بحثاً عن يد تتحرك، عن مصدر سعال أو أنين.. أنتشل ضحايا يصرخون، وهذا مؤلم.
أكثر ما هو مؤلم بالنسبة للمسعف محمد عزايزة، الذي يعمل في
قطاع غزة بلا كلل منذ أن شنت إسرائيل حربها على القطاع، هو أنني لا أرى وجوه الذين تركتهم، تحت الأنقاض، أو أن ترى أماً تحاول عبثاً إيقاظ ولديها اللذين استشهدا.. يتوقف برهة، يلتقط أنفاسه، ويسأل نفسه: ما الذي يمكنني فعله؟.. يريد عزايزة أن يلطم رأسه بحائط.
مؤلم ليست الكلمة المناسبة لوصف مشاعر المسعفين في غزة، ولا مقزز الكلمة المناسبة لوصف المشهد في القطاع، يقول المسعف شوقي صالح. حرب إسرائيل تمنع الوصول إلى المباني المدمرة، لأيام.. تتعفن الجثث المرمية. ليس كلباً ما يحوم حول أجساد الشهداء، وإنما الجرذان. صالح لم يكن يتخيل أن يرى ذلك قط في حياته.. سوى في أفلام هوليوود، ربما.
ضحايا المذبحة الإسرائيلية في غزة تؤرق المسعفين. هؤلاء يتحوّلون في رأس الطبيب هيثم ادغير إلى شريط مصوّر من الأشلاء والجرحى.. لا شيء في الخلفية سوى الصراخ.. ترى من يستطيع تحمل ذلك؟ يتساءل.
ادغير مع طاقمه وسيارة الإسعاف التي يستقلّها، تعرَّض قبل أيام، للمرة الرابعة خلال أسبوع، لقصف مدفعية إسرائيلية. هذه المدافع تقصف الطواقم الطبية بفتات الزجاج، مباشرةً في أعين المسعفين. تنفي الدولة العبرية اعتراض سبيل المسعفين، أو استهدافهم. ومع ذلك، ثمة ٢١ فلسطينياً يعملون في المجال الطبي استُشهدوا، و٣٠ أصيبوا، منذ بدء العدوان، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.
الطبيب معاوية حسنين، الملقّب بطبيب الإحصاءات، يلقي تعليماته، لإدارة عشرات سيارات الإسعاف، التابعة للهلال الأحمر الفلسطيني ووكالة الاونروا، من غرفته الصغيرة في مقر الإسعاف والطوارئ في غزة.
المسعفون يضيقون بتعليماتي. أنا مثلهم لا أنام ومثلهم أتأثر، ومثلهم خسرت أصدقاء وأقارب وزملاء. لكن لا مكان للعواطف هنا. وبلا تحية، رسالته إلى وسائل الإعلام تقتصر على: بلغ عدد الشهداء كذا، وعدد الجرحى كذا. هو عمل مضن في ظل عدوان إسرائيلي مستعر كذلك الدائر في غزة.
لا يتبرّم جراح الأوعية الدموية، من رنين هاتفه الذي لا يكلّ. يتلقى معلومات من طواقم الإسعاف المنتشرة في المناطق الساخنة. يدوّن المعلومات بخط يده على ورقة صغيرة أمامه. يجري المقابلات الإعلامية، ولا أبخل في تزويدهم بالمعلومات، لا بل هو مَن يبادر لتزويدهم بالحصيلة الجديدة، المتصاعدة دوماً. فهل يشعر بالخوف؟ نعم، نحن نعمل وسط الموت. أنا أتألم مثل غيري. لكني لا أستطيع البكاء.
على بعد أمتار من مكتبه المتواضع، يفرغ عمال شحنات الادوية التي وصلت للتو إلى غزة برا. طائرتان من الجزائر (٣٠ طناً من الغذاء والدواء وسيارتا إسعاف). واثنتان من مدريد (٥٤ طناً). وأخرى من البرازيل (١٤ طناً). شاحنات أردنية. وطائرات سعودية وليبية ومغربية (٧٠ طناً). ثمة زحف للأطباء، نروجيون وبلجيكيون وأردنيون ومصريون وغيرهم.. كل ذلك حسن، لكن الطبيب حسنين يحذّر من أن معظم سيارات الإسعاف، وعددها ،١٥٠ مهددة بالتوقف عن العمل. لا نملك الوقود.