
مشاركة:
«لمأساة غزّة وجهان، أحدهما إنساني حيث، وفي معزل عن السياسة، لا يمكن أحداً القبول به. والآخر سياسي يفترض أن يتطلع مسيحيو لبنان إليه بوعي شديد».
هكذا يستهل كريم بقرادوني تشخيص تفاعل مسيحيي لبنان مع أحداث غزة. ثم يتوقف قليلاً ليراجع تجارب سابقة للمسيحيين مع الحدث الفلسطيني المجاور قبل أن يعود بسرعة إلى الواقع، مؤكداً أن الرأي العام، في معزل عن انقساماته، مفجوع يتألم. وعلى ذمّة بقرادوني، ثمة عطف مسيحي وجداني كبير مع ما يحصل في غزّة، وخصوصاً أن جرح حرب تموز لم يلتئم بعد، ومعه كل صور الدمار والبؤس اللذين خلّفها الإسرائيليون في جميع الأرجاء اللبنانية.
ولكلام الرئيس السابق لحزب الكتائب تتمة على لسان رئيس الروابط المسيحيّة، حبيب افرام، الذي يخالف الانطباع العام، مذكّراً بأن مسيحيي لبنان كانوا مؤيدين بقوة للقضيّة الفلسطينيّة ولحقّ الفلسطينيين بإقامة دولتهم، ومتعاطفين مع مأساتهم، لكن العامل الحاسم في انعطاف هؤلاء كان تجاوزات الفلسطينيين في لبنان. أما اليوم، يتابع افرام، فما من استفزاز فلسطيني يحول دون تفاعل المسيحيين بإنسانيّة كاملة مع مأساة جيرانهم، وخصوصاً بعد الاعتذار التاريخي من اللبنانيين الذي أعلنه ممثل السلطة الفلسطينيّة في لبنان عباس زكي. ومن هذه الزاوية، يصبح المسيحيون كمعظم الآخرين وربما أكثر: يتتبّعون الأخبار، يغضبون، ينتظرون إطلالة الأمين العام لحزب الله، ويترقبون الحدث بصفتهم معنيين به لا مجرد جمهور. وتخبو بالكامل تقريباً العبارات العنصرية التي تتلذذ أحقادها باجترار ذكريات الماضي ولوحات الحاضر.
لكن كلام المسؤولين في اللقاء الوطني المسيحي لا يغطي المشهد المسيحي كاملاً، إذ هناك طبعاً من يشارك الباحث شارل شرتوني اعتباره أن «الشعب الفلسطيني ابتلى بمجموعة أفّاقين يحاربون به، ولا يتحملون مسؤوليّة إقامة دولة، ولا مصالحة الفلسطينيين بعضهم لبعض، ويصرون على العودة بالقضية إلى منطق يرفض إنشاء دولتين إسرائيليّة وفلسطينيّة». مؤكداً أن الحمساويين ومن خلفهم الإيرانيون يتاجرون بدم شعوب فقيرة قاطعين الطرق على فرص التسويات. محمّلاً سبب الأزمة للذين يلهون بإطلاق «صواريخ صبيانيّة». ويسأل شرتوني عمّا سيحصِّله الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله من الفوضى المنظمة حين تتحول سيطرة للأصولية الإسلاميّة السنيّة. مشيراً إلى أن وضع حزب الله يومها لن يكون أفضل من وضع شيعة العراق اليوم. ويختم شرتوني باعتبار حماس تعوِّم السياسة الإيرانيّة التي تلجأ إلى تحركات كهذه كلما وصل النظام الإيراني الحاكم إلى استحقاقات داخليّة.
مع العلم أن تتبّع خطابات زعماء المسيحيين ولا سيما العماد عون وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع يظهر تقاطعاً واضحاً عند أكثر من نقطة، وتشابهاً كبيراً في مقاربة أحداث غزة، ويبدو هدف إبعاد الكأس المرة عن لبنان واحداً في أساليب تعبيرية مختلفة. فخلال إطلالاته الثلاث منذ بدء العدوان على غزة، يدوزن جعجع عبارة لا إله إلا الله، معتبراً أن أحداث غزّة مأسوية، ثم يسارع إلى التشديد على ضرورة «عدم تحمّل اللبنانيين مسؤولية اللعبة في الشرق الأوسط». شارحاً لمن يلتبس عليه الأمر أن «لا أحد يملك قرار زج اللبنانيين في معركة تهدد مستقبلهم». أما رئيس تكتل التغيير والإصلاح ميشال عون، فيدين طبعاً ويكرر، كل مرّة بأسلوب جديد، أن لا أحد يحك جلد الفلسطيني غير ظفره.
وبينما يحاول جعجع بطريقة غير مباشرة الدفاع عن الأنظمة العربية رافضاً أن يمر طريق تل أبيب في القاهرة أو عمان أو تونس، يكرر التغيير والإصلاح دعوة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وفوري من المجزرة والحصار الإسرائيليين لا الصمت عنهما بما يشبه المشاركة في الجريمة.
من جهة أخرى، ينتهي بقرادوني عند مقاربة مختلفة للحدث تجعل المسيحيين أكثر انشداداً إلى غزة وتأييداً لحماس على حد قوله، ألا وهي: نجاح المشروع الإسرائيلي يدمر كل إمكان لقيام دولة فلسطينيّة، وسيؤدي حتماً إلى تهجير جديد، وتنفيذ مشروع توطين اللاجئين حيث هم الآن.
أما صمود حماس، وتالياً انتصارها، فسيؤديان حتماً إلى سقوط مشروع التوطين. وبدوره ينتهي إفرام إلى الوعد، باسم اللقاء الوطني المسيحي، بتعبير مسيحي أوضح عن التضامن مع الفلسطينيين يبدأ فور انتهاء الأعياد.
وبموازاة هؤلاء، ثمّة من يقول إن زعماء المسيحيين يتحركون بين النيران، فجعجع في نهاية الأمر يرى في دخول لبنان عسكرياً في الصراع العربي الإسرائيلي لنصرة فلسطين ضربة قاضية للعماد عون نتيجة استصعاب المجتمع المسيحي هضم خيار كهذا، فيما يعرف عون أن صمود الغزاويين وتراجع الإسرائيليين سيعزّز وضع خياره السياسي. بين حدَّي هاتين المقاربتين، ثمّة وسط الجمهور من لا يخفي استعداده للانتقال إلى غزة لمؤازرة الحمساويين، وهناك طبعاً من تقتله دقائق الصمود خشية تصريف «الانتصارات الإلهية» في السوق المحليّة اللبنانيّة.