
مشاركة:
إن قراءة ما يجري في غزة انطلاقاً من مقارنته بعدوان تموز على المقاومة في لبنان أمر منطقي وموضوعي،
وذلك لجملة مسوغات أبرزها:
أولاً: إن حركة حماس هي موضوعياً جزء لا يتجزأ من محور المقاومة في المنطقة في مواجهة المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي، وفي مواجهة خيار الاستسلام المذل الذي تقوده جملة من الأنظمة العربية المعروفة. إن هذا التموضع الاستراتيجي لحركة حماس يجعل الحرب عليها تماماً كالحرب على المقاومة في لبنان والعراق وأفغانستان، متلازمة مع هذه الحروب استراتيجياً، فالحلف الجهنمي الأميركي ـ الصهيوني والبعض عربي بات ينظر إلى حروبه على أي حركة مقاومة من ضمن رؤيته الشاملة للصراع معها، وبالتالي، فهو يعتقد أن أي ضربة توجه لحركة من هذه الحركات من شأنها أن تترك تداعياتها على باقي حلقات المقاومة والممانعة في المنطقة. هذا مع ملاحظة أساسية، أن لحركة المقاومة الفلسطينية بعداً جوهرياً خاصاً يتمثل في هويتها الوطنية المباشرة، وفي إبقائها لجذوة وروح المقاومة، ولروح القضية الفلسطينية حية، من خلال نسب مباشر لا يمكن المزايدة عليه.
ثانياً: إن الأهداف الإسرائيلية المعلنة للعدو الإسرائيلي بالنسبة لحربه على حركات المقاومة في غزة، تتطابق إلى حدّ كبير مع الأهداف المعلنة لعدوان تموز. لقد كان مطلوباً في تموز إجراء عملية جراحية لحزب الله وللمقاومة في لبنان، تمهيداً لإحداث تغيير جوهري في توازنات معادلة المشهد الداخلي لمصلحة فريق 14 آذار الذي يتولى تمثيل المشروع الأميركي في لبنان، وبما يفضي إلى إجراء تسوية مع الكيان الإسرائيلي. والمطلوب الآن إحداث جراحة لحركة حماس بما يمهد الطريق إلى إلحاق غزة مجدداً بسلطة أبو مازن، وبالتالي تمهيد الطريق إلى إبرام تسوية كيفما كان، تسوية جرى إمضاؤها منذ زمن، مع الكيان الإسرائيلي.
ثالثاً: إن التحالف الذي خاض وغطى عدوان تموز على المقاومة في لبنان هو نفسه من يخوض اليوم عدوانه على حركة حماس، وعلى الشعب الفلسطيني في غزة.
خلاصة الكلام هنا، إن الهدف الاستراتيجي للعدوان الإسرائيلي هو إحداث تغيير في المعادلة الفلسطينية الحالية يؤدي في محصلته النهائية إلى الإجهاز على القضية الفلسطينية، بما يريح العديد من الأنظمة العربية، ويجعلها مهيأة أكثر لتغطية حروب أخرى في المنطقة، وبما يفتح الطريق أمام عملية تطبيع شاملة لوجود الكيان الإسرائيلي، وبما يؤسس لتوازنات استراتيجية جديدة في المنطقة لمصلحة محور الاستسلام العربي، ولمصلحة التحالف الأميركي ـ الصهيوني.
أما الكلام على البعد الانتخابي لهذا العدوان، فهو مطلوب في سياق الأهداف الاستراتيجية، بمعنى أنه إذا كانت المؤشرات تذهب إلى أن الليكود بزعامة نتنياهو هو من سيفوز بالانتخابات، وأن نتنياهو سيكون على رأس تكتل من كبار المتشددين الصهاينة، فإن الجاهزية الإسرائيلية للتسوية حتى في أبسط أشكالها، ستكون غير متوافرة، ولذا كان لا بد من أن يقوم تحالف كاديما ـ العمل بهذا العدوان عسى أن يرفع من مستوى شعبيته، واللحاق بالليكود، بما قد يساعده على الفوز بالانتخابات، والعودة مجدداً إلى رئاسة الحكومة، ولا سيما أن جاهزية هذا التحالف لإبرام تسوية تبدو أفضل.
ولا شك ، أن العدو الإسرائيلي يحاول الاستفادة من الفترة الانتقالية الملتبسة ما بين ولاية بوش وولاية أوباما، وذلك لفرض وقائع جديدة، ومعادلات جديدة، تستبق مباشرة أوباما تطبيق رؤيته ومقاربته ومنهجه الخاص لقضايا وملفات المنطقة، والتي تنهض بشكل رئيسي على المفاوضات، والعمل على إبرام تسويات ممكنة.
لكن من الواضح، أن كل شيء يتوقف على نجاح العدوان في إنجاز أهدافه، والكلام على إنجاز الأهداف لا يشمل فقط ما هو معلن ومباشر، وإنما الحصيلة النهائية التي ستترتب على هذا العدوان، والمتمثلة لا بحجم الأفعال العدوانية، وما تدمره من أهداف فقط، وإنما بمجمل ردود الفعل المتوقعة، والتي ستحدث بالفعل.
وعدوان كالذي تتعرض له غزة، لا تتوقف تأثيراته وتداعياته عليها فحسب، وإنما تشمل مساحة المنطقة بأسرها وذلك لـ:
أولاً: إن الذي يتعرض للعدوان هو الشعب الفلسطيني، والقضية التي تتعرض للتصفية هي القضية الفلسطينية، وكلاهما له حضوره القوي في الوجدان والضمير والوعي العربي والإسلامي.
ثانياً: إن حركة حماس المعنية بشكل رئيسي بالعدوان على غزة هي جزء أساسي ولا يتجزأ من تنظيم حركة الأخوان المسلمين، ما يجعل هذه الحركة معنية في كل مناطق وجودها بالتحرك لتوفير كل أسباب الدعم المطلوب لأحد فصائلها الأساسية.
ثالثاً: إن التموضع الاستراتيجي لحركة حماس في إطار المحور المقاوم والممانع في المنطقة، لا بد من أن تشيع محاولات استهدافها توتراً إقليمياً عاماً لا أحد يستطيع التكهن بالوجهة التي يمكن أن يتخذها.
واليوم نظرة سريعة إلى ردود الفعل الأولية على العدوان الإسرائيلي على غزة، تظهر لنا التداعيات الجيواستراتيجية له على امتداد المنطقة، كما تظهر لنا بوضوح أن مساحة المواجهة لا تقف عند حدود غزة، وإنما تمتد لتشمل كل نظام عربي معني بها كطرف.
إن تحويل هذا العدوان إلى مأزق استراتيجي لأنظمة العمالة العربية هو المدخل لإحداث توازن عام في الصراع مع العدو الإسرائيلي، وبالاتجاه الذي يدفع إلى وقفه، وإفشاله في إنجاز أهدافه.
ولذا، فالمعركة ما زالت في بداياتها، ومن المتوقع مع استمرارها بشكلها الحالي، ومع ثبات المقاومين في غزة، ونجاحهم في الاحتفاظ بمواقعهم، أن يؤدي ذلك إلى زعزعة عامة في مجمل محور الخيانة والتسوية المذلة.
من هنا، تبدو الأمور، خصوصاً مع الحضور الكثيف للناس والجماهير في الشارع العربي، مرجحة إلى أحد الاحتمالات التالية:
أولاً: أن يزج الكيان الإسرائيلي بكل قواته للإسراع في حسم المعركة، لأن كل تأخير ليس لمصلحته، ولا لمصلحة حلفائه من العرب وغيرهم.
ثانياً: العمل على فتح الطريق نحو التهدئة مجدداً، لكن مع محاولات لفرض شروط جديدة، مستفيداً من الضغط العسكري، والخسائر التي ألحقها حتى الآن بشعب غزة المقاوم.
ثالثاً: الاكتفاء بتوجيه ضربات شاملة لما يعتبره البنية التحتية لحماس، ومن ثم عرض وقف اطلاق نار، والعودة إلى الحصار، وترك الأمور تتفاعل داخل غزة، بما يؤدي، وفق حساباتهم، إلى تغيير من الداخل.
رابعاً: إيصال الأمور إلى لحظة تدفع إلى تدخل دولي، وربما قرار بإرسال قوات دولية أو عربية أو إسلامية أو مختلطة إلى غزة.
إن أياً من هذه الاحتمالات وغيرها يبقى رهناً بمسار وتطور الأمور ليس على جبهة غزة ـ الكيان الإسرائيلي، وإنما في المنطقة أيضاً، لكن ما يبدو واضحاً حتى الآن، أن الأمور لن تعود كما كانت، وثمة صفحة جديدة من صفحات الصراع مع العدو الاسرائيلي قد بدأت.