مدينة العيد: ذكريات »الليرات الخمس«.. ورائحة المعمول الطازج.. والريحان لأحبة غابوا

مشاركة:

مثل طفلة صغيرة، تحاول المدينة أن تستقبل العيد. لا تملك ثوباً جديداً، لكنها تحاول أن تغسل وجهها وتسرح شعرها وتجدل ضفائرها لتبدو في أجمل صورة.

تحاول أن تمحو أمسَها من الذاكرة، بحثاً عن بعض الأمل في أيامها المقبلة. وفي العيد، يعود الناس الى أشخاص وأحبة لم ينسوهم، إنما لعلهم سقطوا سهواً في دورة الحياة اليومية. معايدات وزيارات للأهل والأصدقاء، أحياء وأمواتاً. وقرص معمول في يد طفلة، وولد جاء ليغسل ضريح والده المتوفّى. يذكر العيد الناس دائماً بضرورة التوقف، والتقاط النفس، والانتباه إلى أشياء جميلة وعزيزة.

ما زال الستيني محمد فوعاني، صاحب محل السمك المقابل لدار الإفتاء الذي زُيّن بالأعلام اللبنانية، بانتظار تلقي تهاني العيد اليوم. يتذكر العيد في طفولته: خمسون إلى ستين طفلاً يتدافعون ويصعدون بحماسة إلى شاحنة صغيرة تقلهم إلى حرش العيد حيث نصبت الأراجيح، في جيب كل واحد من هؤلاء خمس ليرات يمتع نفسه بها طوال أيام العيد. يقول فوعاني: »اليوم خمسمئة ألف ليرة لا تكفي الطفل يومين«، ويومئ برأسه.

يروي فوعاني عن أمسه البعيد: »في الماضي كان الرمل يفرش من أول الشارع، ناحية مسجد عائشة بكار، وصولاً إلى دار الفتوى، وتتزين المنطقة بأقواس النخيل. وتفرد بسطات المخلل (الكبيس) من جميع الأنواع: الخيار، الباذنجان، والملفوف، إلى جانب حلوى غزل البنات. أمهات يصنعن معمول العيد في المنازل، مستعينات بقوالب خشبية خاصة. وأطفال يحملون صواني المعمول إلى الأفران لخبزها. الأراجيح تعلو وتنخفض في كل الأحياء. وأصوات الصغار الفرحين تلامس السماء..«.

يقطع فوعاني المشاهد الجميلة هذه ليشتم سائق دراجة نارية تطلق من عادمها صوتاً مزعجاً. الدراجة نفسها تمر كل يوم من تحت نافذة منزله ليلاً. لكنها، إذا مرت هذا المساء، فسينال صاحبها »عيديته«: دلو ماء على رأسه.

في مفهوم الرجل، الذي يقطع حديثه مراراً ليرسل سلاماً أو تحية أو معايدة لأحد الجيران، أن الأعياد قديماً كانت عبارة عن رخاء ومحبة وهدوء، رغم ضيق الحال. في الأعياد القديمة، تجتمع العائلة بجميع أفرادها في بيت »كبيرها«. وفي اليوم الأخير ينظم الجيران كلهم حفل غداء مشترك. الجيران يعني أربعة أو خمسة منازل متلاصقة، »واليوم يا دوب تقول لجارك كل عام وأنت بخير«.

كسر الدّور عند »الصفصوف«

تعلو رائحة السمن والسميد من محال »صفصوف« للحلويات في الطريق الجديدة، فتملأ أنوف الزبائن الموجودين. لا يزيد عرض المكان المخصص لوقوف هؤلاء الأخيرين عن المتر الواحد. الحاج كمال صفصوف، الذي ورث مهنة »الحلونجي« عن والده، وعن جده من قبله، هو صاحب الصوت العالي الوحيد في المحل: »شعراوي! دزينة بجوز ودزينتان بفستق للحاجة«. وشعراوي، العامل في المحل، يلبي برحابة صدر من دون تأفف. غير أن شعراوي ليس العامل الوحيد في وقفة العيد هذه. ثمة سبعة أو ثمانية موظفين لا يكلّون ولا يهدأون. اللافتة الورقية في المحل تقول: »الرجاء من الزبائن الكرام المحافظة على الدور«. لكن قاعدة الدور لا تعود صالحة اليوم.

يقول الحاج كمال إن محل صفصوف الأساسي كان قرب بناية اللعازارية، في وسط بيروت، وكان يلاصق »مقهى فلسطين«. لكنه، وبسبب الأحداث اللبنانية، اضطر إلى الانتقال الى منطقة الطريق الجديدة. لا يعترض الحاج على تصوير الزبائن في المحل: »صور يا خيي، شو نحنا مكتب سياسي؟ ما عنا شي نخاف منّو«. يخرج فوج ويدخل فوج من الزبائن، فيعلو صوت الحاج الذي يتسم بقوة وتهذيب واضحين مرة أخرى: »يا شعراوي أعط الكيس للزبون إذا بتريد. مشيلي للست كيلو بقلاوة. يا يحيى! كيلو بقلاوة للأخ!«. وللزبون المغادر بلهجة بيروتية واضحة: »الله معك حبيب قلبي..«.

البقاع في »السبينيس«

بعباءته وعقاله حضر أبو علي أحمد وأبناؤه من منطقة قب الياس في البقاع إلى بيروت. وجد مساحة أرض صغيرة تطل على الشارع العام في منطقة الـ»السبينيس«، في الناحية المقابلة لمخيم مار الياس للاجئين الفلسطينيين، فسيّجها بشريط حديدي بدائي، بعدما استأذن صاحبها كما يقول، ووضع عليها خمساً وعشرين رأساً من الماشية.

هذه هي المرة الأولى التي يحضر فيها أبو علي، قليل الكلام، إلى بيروت، لبيع ماشيته التي تستحيل أضاحي في أيام العيد… فـ»هذا الغنم بلدي، تربية البقاع. نحن جماعة دراويش. وقفنا في هذه الزاوية كي لا نضايق أحداً، لكننا لم نبع رأساً واحدة حتى الساعة«. ليس أبو علي نادماً على إحضار »غنماته« من البقاع إلى هذه البقعة من بيروت، ولا على تجارة اليوم الواحد الخاسرة. يقول إنه إذا لم يكتب للغنمات »الذبح« قبل العيد، تكون قد زارت بيروت. ويبتسم.

ريحان الغائبين

بخشوع وقفت السيدة المحجبة أمام الضريح في »مقبرة الشهداء«، في منطقة قصقص، تبكي من ذهب إلى عالم آخر. لا يحمل الضريح اسماً أو رقماً أو أي شيء. محت الأيام خطوط الضريح وهوية صاحبه عنه. لكن السيدة المحجبة تحسن العودة دائماً إلى مكان »غائبها«.

في مثل هذا اليوم تمتلئ الجبّانات والروضات بالأهالي الذين يحضرون لزيارة الراحلين، وغسل وجوه أضرحتهم. حارس الأمن الخاص، الذي صادفت نقطة حراسته على واحدة من بوابات الروضة الخمس، يعتبر أن الزيارات هي »حركة مؤقتة« تتزامن مع العيد، ثم لا تلبث أن تهدأ عند انتهائه. باعة سعف النخيل، وشتول الريحان، والبخور لزوم الأضرحة، حضروا من أماكن بعيدة. حسن صالح أحد هؤلاء. أتى من منطقة رويسات الجديدة إلى بيروت لبيع بضاعته من رزم الريحان التي جمعها من مناطق مختلفة، مثل رومية وعين سعادة وبيت مري. يدرك أن الناس أكثر ما يزورون موتاهم في عيدي الفطر والأضحى، وفي عيد الأم. يبيع الرزمة الواحدة بألف ليرة، لكن إذا »تعسرت« فالرزم الثلاث بألفي ليرة »تقدمة عن روح الميت«.

على بوابة المقبرة تقول اللوحة الرخامية، من بين أشياء أخرى: »الرجاء من الزائرين الكرام لمدافن الشهداء احترام هيبة المكان وأخذ العبرة«. الطفل الصغير الذي وقف أمام اللافتة، محاولاً قراءتها، لن يتمكن من إنهاء ما بدأه، إذ تشده أمه من يده بقوة: »يللا ماما بدنا نغسّل قبر بيّك«.