
مشاركة:
من الثابت ان الحفاوة التي استقبلت فيها دمشق قيادة وجماهير زائرها رئيس التيار الوطني الحر النائب العماد ميشال عون
كان أمراً لافتا سيبقى فترة طويلة علامة فارقة في تاريخ استقبال دولة لزعيم سياسي تُقدره وترغب بفتح صفحة جديدة في العلاقات معه.
ومن الأكيد ان ردود الفعل المستنكرة والمرحبة بهذه الزيارة البالغة الأهمية تخطت في حجمها ومداليلها اي زيارة تقوم بها شخصية سياسية من دولة الى عاصمة دولة أخرى.
ولكن الأهم من ذلك كله ما انطوت عليه هذه الزيارة من أبعاد ومضامين سياسية حاضرة ومستقبلية، تتصل مباشرة بسعي جماعة سياسية دينية الى إعادة تموضعها في قلب معادلة محلية وإقليمية يعلم الجميع علم اليقين أنها تمر في مفترق طرق وفي لحظة مصيرية.
كثيرون طرحوا عشية زيارة العماد عون الى دمشق وغداتها سؤالا فحواه: ماذا سيجني هذا الزعيم السياسي الذي ما لقي زعيم مثله دفعا ومنافسة وحملات تشكيك واتهام، من نتائج هذا الانتقال المكاني والسياسي؟ وكثيرون أوغلوا في تفصيل السؤال حينما بدأوا البحث عن تأثير هذه الزيارة في شعبية العماد عون في الشارع المسيحي الذي محضه في انتخابات عام 2005 الولاء وعقد له البيعة عندما نصبه بالاقتراع رئيسا على اكبر كتلة نيابية مسيحية لم تتوافر سابقا لأي زعيم مسيحي برز في تاريخ الكيان اللبناني.
ولا ريب في ان السؤال الثاني يستقي مشروعية إثارته، خصوصا انه لم يبقَ سوى أقل من 6 أشهر على موعد توجه الناخبين اللبنانيين الى صناديق الاقتراع لينتخبوا برلمانهم الجديد، وليحددوا استتباعا هوية لبنان السياسية، بتجديدهم انتماء ممثليهم في السلطة الاشتراعية.
ولكن قيمة هذين السؤالين تتراجع أوتوماتيكيا اذا ما نُظر الى خطوة العماد عون من زاوية أخرى أرحب وأبعد، وبالتحديد من مسألة تسييلها داخليا واستثمارها انتخابيا، وهو ما دأب أقطاب ورموز الفريق السياسي المتعثر والخائب، اي فريق 14 شباط، على التلهي به.
وعليه فإن "مقاربة" هذه الزيارة والتوغل في أبعادها لا تبدأ من لحظة ان قرر العماد عون صاحب الجرأة ان يطوي صفحة دامت اكثر من 15 عاما من تاريخه السياسي، ويقرر زيارة العاصمة السورية، بل يتعين مقاربتها منذ ان بدأ الرجل مسيرته السياسية فور عودته من منفاه الباريسي عام 2005، ثم منذ قرر إحداث نقلة كبرى في هذه المسيرة تمثلت بنسجه التفاهم التاريخي مع "حزب الله" في شباط عام 2006.
من ذلك الحدث الدراماتيكي والعماد عون لا يكف عن سلوك مسلك سياسي باغت الكثيرين، سيما بعد ان اعتبروه تارة مسلكا وعرا وتارة خيارا غير واعٍ، يأتي تحت وطأة انفعال معين وتحت تأثير حدث معين، لن يلبث الا قليلا حتى يغيره ويبدله.
بيد ان الأيام أثبتت تهافت رهانات المراهنين، اذ تبين بما لا يدع مجالا للشك أن العماد عون أعد نفسه وتياره العريض وزج بكل رصيده في مشروع يتخطى الحسابات الضيقة ويسمو على كل الرهانات الشخصية.. بدا بالدليل الملموس ان هذا الزعيم نذر نفسه لأكبر مشروع يتخطى وصوله الى قصر بعبدا او الاعتراف به زعيما مسيحيا.
لقد كان جليا ان مشروع عون وخياره الواعي يبدأ بإعادة تصويب تاريخ المجموعة المسيحية في لبنان والمشرق العربي، ثم يمتد هذا المشروع ليحافظ على خصوصية هذا الكيان وهذه المجموعة من خلال إرساء أسس علاقة جديدة مع الآخر في الكيان نفسه وفي المحيط العربي والإسلامي، اضافة الى إعادة تأسيس الدولة اللبنانية على أسس مختلفة ومفارقة للأسس التي قامت عليها، والتي جعلت الدولة مزارع طائفية ومحاصصات أخرت نمو الدولة وفتحت الوطن على صراعات جديدة، فيما فتحت الداخل اللبناني على كل رياحات الخارج، بما فيها الريح الأخطر، وهي الريح الإسرائيلية ذات الأطماع التي لا تُحد.
لم يكن الجنرال عون بعيدا عن مغامرات ورهانات القيادات والقوى المسيحية الخائبة والفاشلة، والتي أكثرت من تلوينها وتلونها وارتباطاتها بهذا المشروع وتلك العاصمة، حتى انتهت المسيحية نفسها الى الوقوع بالهزيمة تلو الهزيمة، وانتهت بالوطن الذي أسبغت عليه ذات يوم كل صفات الفرادة والتميز والعبقرية، الى حطام وطن ومجموعات متناحرة ودولة هشة او مؤجلة تنتظر اول هبة ريح لتنفجر صراعات وحروبا أهلية كبيرة حينا وصغيرة حينا آخر.
وانطلاقا من كل هذا الوعي العميق للتجربة اللبنانية التي لم يمر عليها الزمن، وقف العماد عون وقفته التاريخية الشهيرة إبان حرب تموز عام 2006 مع المقاومة وجمهورها، لم يخضع للضغوط، ولم يبادر إطلاقا الى التحلل من التفاهم الذي نسجه مع "حزب الله" في كنيسة مار مخايل.. لم ترهبه التهديدات من هنا وهناك، ولم تغوه الإغراءات التي انهالت عليه من هذه الجهة وتلك العاصمة لفك عرى هذا التفاهم المفتوح على احتمالات أرحب.
ونهج الثبات والصمود عينه اتبعه عون بعد ذلك عندما كان في الصف الأمامي لتحرك المعارضة في الشارع، والذي بدأ لحساب منع الهيمنة والاسئثار، ولتحسين شروط الاصلاح والمشاركة في الحكم.
وأيضا ثبت الرجل على مواقفه، لم تثنه كل محاولات اظهار تراجع شعبيته وجسامة الأثمان التي يدفعها.
وهكذا ربحت رهاناته وكسبت توجهاته وفازت رهاناته، من خلال اتفاق الدوحة وحكومة الوحدة الوطنية.
ومرة أخرى خاض عون غمار التحدي الأكبر، فزار الجمهورية الاسلامية في ايران غير مبال بكل الوان التهديد والوعيد التي وجهت اليه. مضى في خياراته ومشروعه نحو الأبعد من حسابات الساحة اللبنانية، وبدأ يتبنى خطابا أعم وأشمل، خطاب المحافظة على المسيحيين في الشرق عموما، عبر أمرين لا ثالث لهما:
1 ـ اعادة مصالحة هذه الشريحة مع توجهات اهالي المنطقة ودمجهم في قضاياها المصيرية، بعدما صيرتهم خطابات الانعزال والتقوقع مجرد جالية قابلة للرحيل ومشروعا للترحيل، او بمعنى أصح صيرتهم الاحتياط الدائم للمغامرات الهوائية والرهانات المجنونة.
2- ترسيخ مرحلة جديدة في حياة هذه الجماعة وتطلعاتها عبر عملية قطع مع ماضيها الذي أُقنعت بأنها مجرد أقلية بلا جذور، وإعادة تأسيس لمستقبلها عبر صوغ قناعاتها ووعيها من جديد من خلال إقناعها بأنها جزء لا يتجزأ من المنطقة حاضرا ومستقبلا.
وهكذا قاد العماد عون بزيارته الأمس القريب الى طهران وزيارته اليوم الى دمشق عملية تحول دراماتيكية في مسيرته ومسيرة الجماعة التي يمثل.
لقد وقف عون أمام قصر المهاجرين في دمشق بعد لقائه المطول مع الرئيس بشار الأسد، لا لينكر ماضيه، بل امتلك الجرأة التي جعلته يتحدث عن المستقبل، مستقبل الجماعة التي يمثل، ومستقبل الوطن الذي أتى منه، والذي يدرك ان وضعه لن يستقيم، ومرضه لن يبرأ منه ما لم يأتِ الى دمشق ويبدأ مع قيادتها الخطوة الاولى في رحلة الألف ميل، انطلاقا من ايمان عميق بتاريخية العلاقة بين البلدين، وبأن لبنان لن يتعافى اذا لم تكن علاقته مع سوريا على أتم عافية.
والامر بالنسبة لزائر دمشق الجديد ليس مسألة مزايدة كما يزعم البعض او بحثا عن عملية انتخابية وفق ما يدعي البعض الاخر، وليس تنقيبا في الغيب عن مشروع كبير من خلال مسألة مصير مسيحيي الشرق، بل الامر يتصل اتصالا وثيقا ببحثه عن طريق يبلغ به الى مشروع الاصلاح والتغيير في وطنه، والذي نشده دوما.
وهو ليس على شاكلة الصغار الصغار من خصومه في لبنان، ينطلق من ان التغيير الذي يرومه والاصلاح الذي يبتغيه، انما يحتاج اولا وقبل كل شيء الى علاقة سليمة مع تيارات وقوى الداخل، لا سيما منها الذي يضع الاصلاح اساسا في صلب عقيدته ومهمته، اي الى فهم عميق لتركيبة البلد، والى علاقة سليمة مع الجوار العربي وبوابته سوريا.
وما من شك في ان عون راهن على محور الممانعة فكسب الرهان، لأن المحور المضاد، محور الاستسلام، قد أخفق، وكانت البداية طبيعيا، عندما انتصر المقاومون في حرب تموز، الانتصار الإلهي المبين، لتكر من بعدها حبات السبحة.
أمر جلل ان يكون العماد عون في دمشق، ولكن لكل زمن دولة ورجال، والثابت وسط كل هذه "المعمعة" التي يحاول خصوم عون افتعالها حول زيارته لدمشق. ان الرجل يدرك تماما طبيعة الارض التي يتحرك عليها، وواثق من حجم شعبيته، ويعي تماما ان في الشارع المسيحي ترسخ حقيقة تيار وطني حر بات على دراية بآفاق تحرك زعيمه.