
مشاركة:
بعد قرابة 3 سنوات على خروج سمير جعجع من السجن، يبرز صعود القوات اللبنانيّة الهادئ في جبل لبنان.
ورغم رهان البعض على عدم ترجمة هذا الصعود عملياً في صناديق الاقتراع النيابي، يدعو آخرون إلى مقاربة واقعيّة
عام 1985، انقضَّ سمير جعجع على تركة بشير الجميّل الذي لم يجد قائداً يعرف أن يكمل به. وطوال قرابة 10 سنين (1985 ـــــ 1994)، لم يستطع العسكري البشرّاوي أن يبلور مشروعاً، حزبياً وسياسياً، واضح المعالم. الأمر الذي سرّع وسهّل تحوّل القوات، خلال مرحلة اعتقال جعجع، إلى مجموعات متفرقة يكاد لا يجمعها شيء إلا الهتاف «براءة براءة سمير جعجع براءة».
ولكن، بناءً على مراجعة التجربة السابقة، ربما، يبدو أن جعجع، العسكري والسياسي، يعرف، منذ خرج من سجنه، ماذا يريد على الصعيد الحزبي.
وسط كلام قواتي يرى أنّ عدم ترشّح جعجع إلى الانتخابات النيابيّة هذه الدورة يؤكد أنّ أولويّة قيام الحزب على أسس تعجبه تتقدم عند ابن بشرّي على كل شيء آخر.
ومهما كان تهكّم البعض على الفرضيّة السابقة، فإنها تترك صدى إيجابياً وسط القاعدة الحزبيّة التي، خلافاً لمعظم الأحزاب الأخرى، تعيش حيوية واندفاعاً، ويشعر كل حزبي، سواء كان في حدشيت، حراجل، عين الرمانة، أو غيرها، بأن العالم بأسره يتابع حركته.
وعنوان المشروع؟ يرتاح أحد مسؤولي القوات في كرسيه مردداً أنّ نتائج الانتخابات الطالبيّة في جامعتي اللويزة واليسوعية، أشارت إلى بعض ملامح هذا المشروع.
فرغم عدم توافر إحصاءات دقيقة، يؤكد المعنيون في جامعة سيدة اللويزة أنّ أكثر من ثمانين في المئة من طلابهم يأتون من بلدات جبل لبنان. ولا سيما المتن، كسروان وجبيل.
وبعيداً عن تنازع القوات والعونيين على صوت هنا وآخر هناك، المؤكد أن غالبية ناخبي اللويزة اقترعوا للقواتيِّين والكتائب لا للتيار الوطني الحر والطاشناق والمردة وحلفائهم الآخرين.
من هنا، يمكن الكلام عن صعود قواتي في جبل لبنان، ليس انتصار القوات الطالبي حتى في الكليات التي خسرتها عملياً، سوى دليل رمزي عليه، مع الأخذ في الاعتبار أن وجود القوات في جبل لبنان كان خلال ربع القرن الماضي ثانوياً جداً، ولم يسبق لهذا الحزب، حتى في عزّ نفوذه وهيمنته العسكريّة، أن تمتع بما يتمتع به اليوم.
■ القوّات قبل اعتقال جعجع
في التفاصيل، كانت القوات اللبنانيّة لحظة اعتقال قائدها سمير جعجع في 21 نيسان 1994 بتهمة تفجير كنيسة سيدة النجاة تواجه 3 مشاكل رئيسيّة تحاصر نفوذها في جبل لبنان، هي:
1ـــــ الرأي العام الضاغط الذي لم تعجبه نتائج اتفاق الطائف، والذي حمّل القوات اللبنانيّة جزءاً كبيراً من مسؤولية الاجتياح السوري لكل مناطق جبل لبنان، في حين كان جمهور القوات يحمّل عون هذه المسؤولية.
2ـــــ وجود حساسيّة كبيرة بين اللاعبين الأساسيين في أحزاب جبل لبنان التقليديّة والقوات، من العونيين إلى الكتلة الوطنية مروراً بحزب الكتائب القلق من «انشقاق جعجع» عنه، وحزب الوطنيين الأحرار الجازم يومها بوجود بصمات جعجع على اغتيال رئيسه داني، مروراً بالحزب السوري القومي الاجتماعي والوعد وغيرهما من الأحزاب المواجهة، بحكم العقيدة، للقوات.
ولم ينفع هنا انضمام القوات إلى «جبهة المعارضة اللبنانيّة» التي أطلقت في 9 تشرين الأول 1992 وضمّت كلّاً من حزب الكتلة، الوطنيين الأحرار والوطني الحر، لأنّ البعد كان بين الناس أكثر مما هو بين الزعماء.
3ـــــ عدم تبلور صورة واضحة عن ماهيّة القوات في زمن السلم، حيث إن غالبية الناضجين سياسياً عادوا إلى أحزابهم، سواء كانت الكتائب أو الوطنيين الأحرار أو حراس الأرز أو غيرها.
وهناك من وضّب الثروة الصغيرة التي جمعها خلال الحرب وهاجر. ويذكر هنا أن جعجع لحظة اعتقاله كان في طور التفكير بأي حزب يريد.
يضاف إلى هذه، أن الحاكم السوري في تلك المرحلة فضّل خصوم جعجع عليه، حتى داخل القوات، مثل إيلي حبيقة الذي كاد يكون وأنصاره مطلقي الصلاحيات، فيما كانت القوى الأمنية تتربّص بقوات جعجع.
وقد دهمت في 27/7/1992 مصلحة طلاب القوات في الأشرفية واعتقلت الموجودين فيها (ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية أن عددهم 23) بتهمة التآمر على الدولة، مفتتحة رسمياً عهد الملاحقات، الأمر الذي سرّع خروج جعجع من المشروع السياسي الذي التزمته القوات عبر موافقتها على اتفاق الطائف، وانضم إلى دعاة المقاطعة لانتخابات الطائف النيابيّة عام 1992 والتي حملت إلى المجلس النيابي كلّ خصوم القوات في الشمال وجبل لبنان، حيث مثّل جبيل مسيحياً العميد المتقاعد ميشال الخوري ومهى أسعد ابنة المسؤول الكتائبي السابق غيث خوري والتي كانت تتهم جعجع بالتخطيط لجريمة اغتيال والدها.
ومثّل المتن ميشال المر، الذي سبق للقوات أن حاولت اغتياله، وكان أول من اتهم في 23 آذار 1994 القوات بتنفيذ تفجير سيدة النجاة، معلناً قرار حلّ حزب القوات وتوقيف رئيس الهيئة الإدارية فؤاد مالك و8 آخرين، وغسان الأشقر (الحزب السوري القومي الاجتماعي) وميشال سماحة وغيرهم ممّن لا يكنّون أيّ ودّ لجعجع، فيما تزعّم إيلي حبيقة مسيحيي بعبدا، ومنصور البون مسيحيي كسروان (وقد ألقى عشية الانتخابات مجهولون، قيل لاحقاً إنهم قد يكونون من القوات اللبنانيّة، قنبلة أمام منزل البون).
أما اليوم، فيسجّل المتابعون لحال القوات وضع جعجع لاستراتيجيا نهوض، أبرز ما فيها:
1. الالتزام باعتبار حزب القوات اللبنانية الرسمي، والذي يفترض أن يُحاسب جعجع على أدائه، هو الحزب الذي حاز العلم والخبر عام 2005.
2. السعي لوضع كل إنجازات الحزب الآخر وممتلكاته في تصرّف الحزب الجديد، واستغلال تاريخ ما يطلق عليه اسم «المقاومة المسيحيّة» وشهدائها لدعم قوات 2005.
3. تحويل القوات من تجمّع مقاتلين للأحزاب المسيحيّة التقليديّة، وخصوصاً الكتائب، الأحرار، حراس الأرز، والتنظيم إلى حزب قائم له نظامه وهيكله السياسي.
4. وضع خطة سياسيّة وقضائيّة لاسترجاع معظم ممتلكات حزب القوات السابق.
5. احتضان معظم مكوّنات مسيحيي 14 آذار، ومحاولة تحويل قصر معراب إلى المرجعية الأساسيّة المناوئة لفيلا الرابية.
6. إقناع تيار المستقبل والدول الإقليمية ذات المونة على قوى 14 آذار بأن قوات جعجع وحدها قادرة على أن تكون رأس حربة في أي صراع، سياسي أو غيره.
7. توفير إمكانات مادية تتخطّى حجم القوات بأضعاف، ووضع التوظيف في كل المؤسسات الرسميّة، وخصوصاً القوى الأمنية، في تصرّف مسؤولي القوات.
■ الأولويّة للمدارس
في موازاة هذه النقاط التي وفّرت للقوات البنية الأساسية الأولى للنهوض والمتمثّلة بالغطاء السياسي العام والغطاء المسيحي والخدمات، عمد جعجع إلى تركيز جهده بداية على النقابات والقطاعات، وخصوصاً قطاعي طلاب الجامعات وتلامذة المدارس، آخذاً في الاعتبار، ربما.
يقول أحد الكتائبيين، أن الذاكرة تحتاج إلى جيلين على الأقل، قرابة 40 سنة، حتى تنسى. وبالتالي، كان يدرك أنّ تجاوز ارتكابات القوات في المجتمع المسيحي خلال الحرب لن يكون سهلاً (حتى تلك التي يقول القوات إن نيّة ارتكابها كانت إيجابية)، فتجاوز السعي إلى مصالحة الكبار مركّزاً على إقناع الصغار.
ويسجّل هنا تفوّق قواتي ساحق، يتمسك كثيرون بضرورة تجاهله، على مستوى تلامذة المدارس والشباب. ومن لم تجذبه خلايا القوات المدرسية، المنظّمة باحتراف، والمتابعة بدقة من القيادة، والمخصص لها موازنات ماليّة كبيرة، اجتذب عبر الكشافة التي تدعو الشبّان إلى أسبوع لهو وتسلية، وإذا بهم يعودون مجهّزين لنقاشات غالباً ما يخرجون منها منتصرين، وخصوصاً أن من يناقشهم لا يحظى في حزبه بأيّ اهتمام أو تنشئة حزبية ـــــ ثقافيّة.
وهكذا يمكن الكلام عن ملامح أولى لجيل قواتي سيقلب الأوضاع في جبل لبنان وغيره، عاجلاً أو آجلاً، إن لم يتدارك المعنيون في القوى الأخرى الأمر.
والجدير ذكره هنا أن حجّة العونيين، المادية، في ما يتعلق بتفوّق القوات في معظم كليات الجامعة اللبنانية في السنة الدراسية الأولى (يقول العونيون إن القوات يملكون المال الكثير ليسجّلوا مؤيديهم في أكثر من كليّة) تسقط إن أخذت نتائج السنوات الأولى في الجامعات الخاصة بعين الاعتبار (لأنّ الكلفة والشروط تحول دون قدرة القوات على التسجيل في الجامعات الخاصة).
وعلى صعيد النقابات، يكفي السؤال عن اهتمام جعجع بحال «قطاع العلاج الفيزيائي» لمعرفة مدى انشغاله بنجاح القوات على الصعيد النقابي.
■ التمدّد المناطقي
أما مناطقياً، فتسجّل ملاحظتان أساسيتان:
أولاهما، اختيار جعجع أشخاصاً يثق بهم، وتعيينهم مسؤولي أقضية، حتى لو وجد أفضل منهم (المعيار للثقة لا للكفاءة أو أيّ شيء آخر).
ويشار هنا إلى أنّ كثراً ابتعدوا عن القوات ابتداءً من منتصف التسعينات بحجة أنّ زوجة جعجع النائبة ستريدا جعجع التي مثّلته في الحياة السياسية وفي قيادة القوات لا توصل الصورة الحزبيّة كاملة إليه، وتوزّع المسؤوليات بناءً على رغبتها الخاصّة لا رغبة زوجها.
وبالتالي، هجر هؤلاء الحزب على أمل العودة إليه بعد خروج جعجع وإنصافه رفاقه السابقين.
لكنّ المفاجأة أن معظم من طرق باب معراب من هؤلاء سمع كلاماً معسولاً، لكنّ باب الحزب بقي موصداً في وجهه، وفهم معظمهم أن لا مكان في حزب جعجع لمن عارض ستريدا أو تكلّم عنها مرّة بالسوء.
ويبدو أنّ جعجع لا يعاني عقدة عدد المنتسبين، ولا يشغل نفسه بتتبّع نمو القاعدة الحزبيّة المناطقيّة، لا بل يسعى حزبياً إلى تركيب مجموعة صغيرة نسبياً في كل بلدة تتمتع بقدرة تحرك شعبي كبيرة حين تدعو الحاجة. وبالتالي، يقول أحد مسؤولي القوات، لن يضم الحزب 50 ألف محازب غالباً ما يتعذّر تنظيمهم فيندثرون، بل سيضم الحزب قرابة خمسة آلاف تكون مسؤوليتهم تنظيم التفاعل مع الخمسين ألف مؤيّد إن بلغ العديد رقماً كهذا.
وثانيتهما، اتكال جعجع على حليف قوي في كل منطقة لتوطيد العلاقة معه، تمهيداً لخرق جمهوره وجذب جزء من هذا الجمهور إلى الانضواء تحت عباءة القوات. هكذا حصل مع هادي حبيش في القبيات، نايلة معوض في زغرتا، نقولا غصن في الكورة، بطرس حرب في البترون، فارس سعيد في جبيل ونسيب لحود في المتن.
وهكذا كان يفترض أن يحصل مع منصور البون في كسروان لو لم يكن الأخير يقظاً.
حيث بات معظم أنصار هؤلاء مؤيّدين للقوات: إن شاركوا في احتفال يرفعون علم القوات، وإن أُحرجوا في نقاش يستشهدون بحكم جعجع، وإن بخل عليهم زعماؤهم بالخدمات يفيض عليهم كرم القوات.
وعبر هؤلاء، استطاعت القوات اللبنانية تحقيق خرق كبير غير مسبوق في جرود البترون (رغم حفاظ رابطة سيدة إيليج التي تضم نخبة من مسؤولي القوات العسكريين على موقفها من جعجع)، جبيل والمتن الأوسط، مع الأخذ في الاعتبار أنّ ما يصح في حالة جعجع وحلفائه لا يصح في حالة عون وحلفائه، حيث إن حلفاء عون الأساسيين يتمتعون بحيثية كبيرة ويخشى منهم لا عليهم.
من هنا، يقول أحد المتابعين لنشاط جعجع العمودي الهادئ، إنّ حزب القوات اليوم عمره فعلياً 3 سنوات فقط، وهو تنظيم هرمي يرأسه جعجع، تضبط إيقاعه مجموعة من المقاتلين السابقين الذين يتقنون تنفيذ الأوامر دون اعتراض، يمثّل الشباب عموماً والطلاب خصوصاً عموده الفقري، أما قاعدته العريضة فتتألف من فئتين أساسيتين:
أبناء منطقتي بشرّي ودير الأحمر المنتشرين بكثافة في جبل لبنان، وأشخاص جدد في الحياة الحزبيّة تخلّوا عن مرجعياتهم العائليّة والمناطقيّة لمصلحة مرجعيّة جعجع.
ويمكن بالتالي لهرم كهذا توفير استمراريته، وخصوصاً إذا أخذ في الاعتبار أن لا شيء يحصل صدفة وفق منطق جعجع، المخطط البارع الذي يدرس الواقع بدقة، بحسب أحد قدامى القوات.
القوات والمردة
ينظر كثيرون إلى العلاقة بين القوات والمردة على أساس أنها صراع على الزعامة المسيحيّة مستقبلاً. والمقارنة اليوم بين تنظيمي سمير جعجع وسليمان فرنجيّة تبرز تفوّقاً كبيراً للأول.
فشمالاً، يتمتع جعجع بالنفوذ الأقوى في بشرّي، وقد حقق خرقاً مهماً عبر تحالفه مع آل معوض في زغرتا، ويوسّع دائرة نفوذه في عكار، حيث يرجّح أن يطالب تيار المستقبل بأحد النواب المسيحيين الثلاثة الذين يمثّلون القضاء، ويرتاح إلى معركته النيابية في البترون، ويواجه بشراسة، ولو دون جدوى وفق البعض، في الكورة.
في المقابل، يسيطر فرنجيّة شعبياً على زغرتا، مبقياً على علاقته المتينة ببعض نواب بشرّي السابقين، ويتابع عن بعد، دون ضغط مباشر، أوضاع عكار، ويتحرك بخجل في الكورة والبترون، حيث كان يفترض أن يكون الأمر له.
وبين الشمال وجبل لبنان، يمكن أخذ العبر عن حجمي المردة والقوات من خلال النظر إلى نتائج الانتخابات الطالبيّة. فقبل أن ينهي أهل المردة احتفالهم بترشّح أحدهم في جامعة سيدة اللويزة للمرة الأولى، كانت القوات تفوز بغالبية مطلقة في انتخابات الجامعة نفسها.أما في جبل لبنان، ورغم فتح المردة مكاتب عدة، لم تتبلور صورة التنظيم بعد، واقتصر حضورهم عملياً على مسؤول هنا وآخر هناك، فيما القوات تؤسس نفسها وتتوسع في كل أقضية جبل لبنان. فيما يرى أحد الكتائبيين أنّ صراع المردة والقوات عبثي، لأن زعامة المسيحيين الأساسية لا يمكن أن تُلبس أبداً لشمالي. والدليل أن حميد فرنجية، في أيام عزّه، بقي شخصية كبيرة ولم يصبح زعيماً بالمعنى الشعبي الشامل. كذلك سليمان الجد، صار رئيساً للجمهوريّة، ولم يصبح زعيماً. فيما بيار الجميّل وريمون إده صارا زعيمين دون أن يمرا بقصر بعبدا. والتاريخ يذكر أن الأمير فخر الدين حين اجتاح الشمال عام 1611 ثم عام 1619 وطرد آل سيفا، استعاض عن الشماليين بماروني من عجلتون هو أبو نادر الخازن. وثمة، وسط الكتائبيين، من يقول إن خلفية صراع القوات والمردة، وهو في الأصل صراع بين الكتائب والمردة، كانت رفض المردة دخول الحياة الحزبية إلى الشمال.