
مشاركة:
يارون أقصى حدود الوطن، جارة فلسطين ومعبر ثوارها الأوائل من ناصيف نصار إلى الشهيد رضوان صالح. يعود ذكرها إلى اليوميات مع تكرر الاعتداءات الإسرائيلية والخروقات البرية والجوية والدوريات.
الألغام منثورة في أراضيها، ولطالما سكنت طرقها وحقولها دبابات وآليات »اليونيفيل«. وهي أيضاً الغائبة عن خرائط التنمية الرسمية، فيما سيرتها سيرة القصور الفخمة.. والخاوية.
يارون الغربة المزدوجة، بين وطن نسيها والأهالي الذين ارتحلوا إلى أقاصي الأرض بحثاً عن الرزق والأمان. يعود تاريخها المبهم نسبياً إلى العهد الكنعاني، كما يشرح الشيخ حسين سليمان وهو يشير إلى الآثار قرب مسجد البلدة الذي ارتفع قبل ٣٠٠ عام، وتلك المنتشرة في بعض أرجائها. كما يعتقد سليمان أن اسم »يارون« ربما يكون مشتقاً من لغة تلك العهود، إذ ينتشر الاسم بين العائلات اليهودية بشكل كبير ويستخدم كاسم علم.
واشتهر أهل البلدة بالزراعة وتربية الماشية، كحال معظم سكان هذه المناطق، »لكن الاحتلالات المتعاقبة والاعتداءات الكثيرة التي تعرضت لها البلدة، جعلت أبناءها يسلكون درب الهجرة«، كما يقول المغترب علي حرب. ويتابع: »في مطلع القرن الماضي، كانت الوجهة الأساسية للاغتراب هي الأرجنتين، وذلك هرباً من الأتراك. فاستوطنت عشرات العائلات هناك، ظناً منها أن الأتراك ما زالوا هنا، وهكذا ظلت بيوتها مقفلة تفتك بها الأعوام… ثم ارتفعت وتيرة الهجرة نحو القارة الأميركية، في بداية الخمسينيات، أي في أعقاب احتلال فلسطين، فقصد أبناء يارون الولايات المتحدة الأميركية ودول أميركا اللاتينية. ومنهم من اتجه إلى أستراليا، حيث حققوا نجاحاً كبيراً على الصعيد التجاري، مما مكّنهم من بناء القصور الفخمة التي تتميز بها بلدتهم حالياً«.
والحال أن أكثر من ستة آلاف مغترب، من أهالي يارون، يتوزعون على خمس وجهات، وتحديداً نيويورك وكولومبيا وأستراليا وباناما. وارتفع في يارون أكثر من ٢٥٠ قصراً من الحجر الصخري الفاخر، التي تفوق تكلفتها مئات الملايين من الدولارات، علماً بأن معظمها غير مأهول طوال العام، وإن دبّت فيها الحياة ففي العطل الصيفية. ويدور الحديث حالياً حول القصر الواقع على الطريق إلى ساحة الضيعة، إذ يتميز هذا البناء ببوابته التي تأتي على شكلÅقوس وتاجين، كما يشير أحد عمال البناء في الموقع الى أن كلفة إنجاز هذه البوابة تبلغ خمسين ألف دولار أميركي، والحبل على الجرار! والجدير بالذكر أن بيوت المغتربين تخرج بالتدريج على الحدود الجغرافية ليارون، لتمتد إلى أطراف بنت جبيل ومارون الراس الواقعة على تلال مشرفة ومرتفعة، فباتت معاملات أصحابها تابعة عملياً لثلاث بلديات.
يبلغ عدد سكان يارون »نظرياً« حوالى ١٢ ألف نسمة، لكن معظمهم من المهاجرين، مما لا يترك في البلدة سوى عدد محدود من السكان، غالبيتهم من النساء والشيوخ والأطفال. وقد فشلت البلدة، خلال موسم الانتخابات البلدية الأخير، في تشكيل مجلس بلدي »يحافظ على العيش المشترك« كما أشار وزير الداخلية يومها الياس المر، الذي أصدر قراراً بتأجيل الانتخابات البلدية فيها إلى موعد لم يأتِ بعد، وذلك بعد انسحاب جميع المرشحين المسيحيين، فيما لا يزال قائمقام بنت جبيل يتابع شؤونها البلدية حتى اليوم. ولعل من أشهر معالم البلدة حالياً، بالإضافة إلى الآثار المذكورة، هو حرج البلدة الذي يعتبر الأكبر من نوعه في أقصى الجيب الجنوبي التابع لقضاء بنت جبيل، وتقدر مساحته بـ٦٥٠ دونماً، ويضم ما لا يقل عن سبعة آلاف سنديانة معمرة (عمر معظمها أكثر من مئة عام)، وتبذل الجهود سنوياً، من قبل جهات محلية وأجنبية، للمحافظة عليه. هذا بالإضافة إلى قبر الشيخ ناصيف النصار، أحد ثوار جبل عامل إبان حكم »الجزار«، الذي استشهد خلال معركة مع جيش الجزار عام ١١٩٥ هجرية على أطراف البلدة جنوباً لجهة فلسطين المحتلة. وما زالت البلاطة الحجرية التي استشهد عليها موجودة إلى اليوم وتعرف بـ»صخرة ناصيف نصار«.
وتشاطر بلدة يارون الحدودية، في قضاء بنت جبيل، عدداً من مثيلاتها في قرى القضاء، لا سيما المحيطة بها كتبنين وبرعشيت والجميجمة، في تكريس مبادئ العيش المشترك وأسسه ما بين المقيمين فيها من مسيحيين ومسلمين، إذ يشكل مسيحيوها حوالى ربع عدد السكان. ويقول المواطن ابراهيم سلوم إن »الكنيسة تبعد أمتاراً قليلة عن مسجد يارون، والحياة هنا لا تغيرها مجريات الزمن أو السياسات التي تقرب قرى وتبعد أخرى«، مشيراً إلى أنه لم تسجل حتى اليوم أي مشكلة بين الطرفين، إن على الخلفية الطائفية أو السياسية أو على أي خلفية أخرى.
ورغم ذلك، وما يقال عن جمال البيوت وفخامتها في هذه البلدة الحدودية، فإنها تبقى بحاجة إلى أهلها كي تعمر بوجودهم لا بالحجر وحده…