مشاركة:
أربك جنبلاط السوريين خلال الأعوام السابقة، وكان الأكثر حدّة بين حلفائه في مخاطبة سوريا.
اليوم تغيّرت الأوضاع، وبات الزعيم الدرزي يبحث عن «تجليس» مواقفه علّه يحافظ على زعامته ويورّثها. أبواب الشام مقفلة تماماً، فتحوّل إلى خطب ودّ حلفاء سوريا… متحدثاً عن أثمان لا بد من دفعها
نجح وليد جنبلاط، عبر مصالحة خلدة، في خفض حدة الخلاف مع حزب الله، الركن الأساسي في المعارضة، فيما لا تزال أبواب الرابية مقفلة في وجهه. وليس خافياً على أحد أنّ هذه الوجهة التوافقية التي انتهجها جنبلاط في الفترة الأخيرة وليدة مجموعة عناصر وتحوّلات درسها الزعيم الاشتراكي خلافاً لعدد من حلفائه: إدراكه بعد أحداث أيار لعجزه عن المواجهة، تغيّر الخطاب الأميركي وسكون الأزمة الإقليمية وقلب المعادلة من المنحى الإلغائي لأنظمة المنطقة إلى المهادنة وإعادة توزيع الأدوار، والأهمّ: الانفتاح الدولي على سوريا، عدّوه الأول الذي لم يدع مناسبةً منذ عام 2005 إلا اغتنمها ليوجّه سهامه إليه. ويعترف جنبلاط أمام زوّاره بأن عليه دفع ثمن لإعادة الوئام إلى علاقته مع النظام السوري.
■ اللقاء الأخير
حصل اللقاء الأخير بين جنبلاط والسوريين في 11 أيلول 2004، يوم التقى الزعيم الاشتراكي رئيس فرع الأمن والاستطلاع في القوات السورية في لبنان، رستم غزالة، على خلفية التمديد للرئيس السابق إميل لحود. ويقول مصدر معارض في الجبل إنّ هذه الزيارة حصلت بعد محاولات عديدة قام بها مرسلون سوريون لتنسيق عملية التمديد مع جنبلاط. كما سبق الزيارة، أي خلال هذه المحاولات غير المباشرة، وضع حنبلاط مجموعة من المطالب للموافقة على التمديد، ومنها (وقد سجّلت على ورقة وسلّمت إلى القيادة السورية): أولاً إدخال 3000 عنصر درزي، يسمّيهم جنبلاط، إلى قوى الأمن، ثانياً، رفع حصّته من التعيينات الأمنية، ثالثاً، مبلغ يقدّر بمئتي مليون دولار لحلّ قضية المهجرّين، الحصول على عدد من الوزارات الخدماتية منها وزارتا الأشغال والاتصالات. وافق السوريون على شروط جنبلاط، إلا أنّه تراجع، فكانت الزيارة بعد يومين من التفاوض غير المباشر.
ويقول المتحدث إنّ رستم غزالة «كان يومها صبوراً مع أنه قلّما كان كذلك، واستعمل مختلف الوسائل للحصول على موقف إيجابي من جنبلاط حيال التمديد، لكن جواب الزعيم الدرزي كان سلبياً. خرج غزالة من كليمنصو وكان هذا هو اللقاء الأخير بين الرجلين، وانعكس موقف جنبلاط مساءً إلغاء دعوة لحود له ولعائلته إلى العشاء احتفاءً بزواج الابن الجنبلاطي الأكبر والوارث البكر تيمور. وخرج جنبلاط بعد اللقاء إلى بعض أعوانه قائلاً: «المشهد كله سيتغيّر والرياح الأميركية ستعصف بالمنطقة»، على ما يروي المتحدث المعارض».
■ الوئام مع سوريا
مرّ «القطوع» على النظام السوري وحالفه عنصر الوقت، كالمعتاد، وتجدّدت علاقاته الدولية، ويجد النظام السوري نفسه اليوم مرتاحاً على أكثر من صعيد. وهذا الارتياح ينعكس تلقائياًَ على «الساحة اللبنانية» في جمود مشروع 14 آذار وتقدم موقف المعارضة. السوريون لا ينتقمون من خصومهم حين يكونون مرتاحين، بحسب ما يقول معارض متابع لتفاصيل الجبل، مشيراً إلى أنّ الضغط السوري على جنبلاط ليس كما يتصوّر البعض، إنما هناك إغلاق تام من الجانب السوري لأقنية التواصل بين الطرفين، وتجاهل لمحاولات تحريك العلاقة معه.
فالسوريون لم ينسوا شبق جنبلاط إلى قلب النظام السوري ورغبته بإرسال السيارات المفخخة من بغداد إلى دمشق، «والأكثر تأثيراً عند السوريين المساس برمزية النظام وشكله وأمنه، وإطلاق نعوت مهينة على الأسد، وغير ذلك من التجريح الشخصي». لا نيّة عند السوريين لمحاسبة جنبلاط أو إنهائه سياسياً، يقول المصدر المعارض، بل ستجرى محاسبته عبر اللبنانيين المقرّبين من سوريا، «ويجد جنبلاط نفسه مضطراً إلى التنازل أمام هذه القوى، لكن لا شيء يمكن أن يعيد المياه إلى مجاريها بينه وبين السوريين، فالعلاقة انقطعت بتاتاً و«إلى الأبد» وحكام دمشق لن ينسوا.
■ السعي لبناني ودولي
لم يكفّ جنبلاط، منذ فهمه للتراجع الأميركي في المنطقة، عن السعي إلى إعادة فتح الأبواب مع سوريا. فكانت محاولات ورسائل وجّهها زعيم الجبل إلى السوريين، سواء عبر رئيس مجلس النواب نبيه بري أو الوزير طلال إرسلان أو حزب الله وشخصيات أخرى معارضة. ولم تنجح المحاولات. ويلفت المصدر إلى أنّ أحد الملحقين الإعلاميين الروس يؤكد أنّ الرئيس فلاديمير بوتين حاول فتح ملف علاقة السوريين بجنبلاط لدى الزيارة الأخيرة للرئيس السوري إلى روسيا يوم كان بوتين لا يزال في الرئاسة، لكن الأسد رفض فتح الموضوع وفهم الروس أنّ وساطتهم لن تنجح.
وللنظام الليبي أيضاًَ مسعى لمعالجة الموضوع، يوم قام ابن الرئيس الليبي، قذّاف الدم بزيارة إلى دمشق، بعد اتصالات مع جنبلاط، لكن الرد السوري كان أيضاً واضحاً بتجاهل القضية. وخلال الزيارة الأخيرة للوزير إرسلان إلى سوريا كان الموقف السوري لا يزال على حاله دون أي تعديل يذكر.
■ دور المعارضة اللبنانيّة
يمكن القول إنّ السوريين يوكلون التعامل مع جنبلاط إلى المعارضة اللبنانية وفي الطليعة حزب الله والقوى في الجبل من إرسلان إلى وئام وهاب. وهذا الموقف السوري يبدو واضحاً من خلال أحداث وتواريخ عدة منها أيار الماضي وتأليف الحكومة والمصالحة الأخيرة.
ويؤكد مصدر معارض أنّ العلاقة بين المعارضة وجنبلاط ستكون في أفضل الأحوال كما هي اليوم، أي «عبر مصالحة لا تنعكس إلا على مستوى اطمئنان أهالي الجبل، بمختلف انتماءاتهم، إلى كون الهدوء عاد والخلاف والاختلاف الجذريين محصوران ولا يترجمان إلا في المؤسسات الدستورية».
والحديث عن دور المعارضة يستتبع الحديث عن الحزب الديموقراطي اللبناني الذي كان له الدور الأبرز في إنهاء حرب الجبل في أيار الماضي ثم عاد وترجمها في المصالحة الأخيرة. لكن العلاقة بين المير والبيك لا تزال مشوبة بعدم التكافؤ، فرغم ما قدّمه إرسلان إلى جنبلاط، لا يزال مسعى الأول في الحصول على كرسي نيابي في عاليه غير مضمون، و«يعرف جنبلاط أنّ المعركة الانتخابية المقبلة ستحسم بأربعة أو خمسة مقاعد» يقول المتحدث، مضيفاً إنه لا يمكن البيك التنازل عن مقعد قد يتسبّب بخسارة الأكثرية أكثريتها. وإضافة إلى ما يقوله المصدر، فجنبلاط نفسه أكد لـ«الأخبار» خلال لقاء غير «رسمي»: «طلال ليس نائباً، فلماذا يحصل على مقعد؟ فليقنع حلفاءه بإعطائي مقعداً». أي إنّ مقعد إرسلان مرهون بمقعد آخر تتنازل عنه المعارضة لجنبلاط. ويضيف المصدر إنّ إرسلان غير قادر، في ما يخص الملف السوري، على أداء دور فاعل «وهذا الملف هو الأهم بالنسبة إلى جنبلاط ومستقبل آل جنبلاط السياسي».
■ ثمن عودة العلاقة
العلاقة مع النظام السوري محصورة حتى إشعار آخر بحلفائه في لبنان كما ذكرنا، والثمن الذي على جنبلاط دفعه مقابل تليين «الجبهة السورية» يحدّده الحلفاء، على الأقل في الظاهر. وهذا الثمن بدأ يترجم فعلياً في العلاقة بين القوى في الجبل، إذ إنّ هيمنة الحزب الاشتراكي هناك بدأت تخفّ، والتوترات التي قيل إن أنصاره قد يكونون في صدد الإعداد لها قد تلاشت. وهذه الأثمان منها ما هو مرحلي ومنها ما هو بعيد المدى. الثمن المرحلي هو في إعادة تكريس دور القوى المعارضة في الجبل «وهي مرتاحة في هذه الأيام ولا تعاني مضايقات». والثمن الاستراتيجي هو في تغيير معادلة التمثيل الدرزي في البرلمان، «أربعة مقابل أربعة»، يقول المصدر في إشارة إلى النواب المعارضين الأربعة: طلال إرسلان، وئام وهاب، أنور الخليل وفيصل الداوود. بغير هذا الثمن الصعب على جنبلاط ستنتهي العلاقة مع المعارضة كما انتهت العلاقة مع السوريين.
على خطى البيك
مثّل الثلاثي الحريري ــــ جنبلاط ــــ جعجع القوى الضاربة في وجه النظام السوري. ولكن يبدو التراجع واضحاً في خطاب كل من الحريري وجنبلاط، فيما لا يزال الثالث مصرّاً على المواجهة. ويبدو أنه سيسير وحيداً في هذا الخيار مع الحديث عن مصالحة قريبة بين تيار المستقبل وحزب الله. وستزيد وحدته مع رسالة بعث بها الرئيس الأسبق أمين الجميّل إلى السوريين، عبر وسيط تونسي، لإعادة فتح الأبواب بين الكتائب ودمشق. وكانت قد سبقت هذه المحاولة محاولتان، الأولى عبر رجل الأعمال عصام بو درويش قبيل انتخابات المتن الفرعية، والثانية عبر الرئيس نبيه بري بعدها بأشهر. يبدو أنّ الجميّل وجنبلاط اقتنعا بما يقوله العرب خارج السعودية عن استحالة تجاوز الدور السوري في لبنان.