
مشاركة:
لا يحتاج المراقب إلى إعلان أو تصريح من جانب إسرائيل ليدرك أنّ أجهزتها الاستخباريّة تغرق حتّى أذنيها في قراءة وتحليل كلام الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله.
ولا تشذّ عن ذلك خطاباته الأخيرة التي ضمّنها وعيداً واضحاً بـ«المفاجأة الكبرى» وبـ«النصر الحاسم والقاطع» وبتدمير الفرق العسكرية الإسرائيلية التي ستدخل إلى لبنان.
هذه المسألة تلامس البداهة التي لا تحتاج إلى استدلال، ما يستدعي التوقّف عنده بتأمّل هو الصمت الإسرائيلي المريب الذي يتلو خُطب نصر الله، الأمر الذي يشكل سابقة غير مألوفة. فإسرائيل التي عوّدت العالم على التهديد والوعيد واعتادت التعليق بسخرية على ما يطلقه العرب من تهديدات ضدّها، فضّلت، بشكل لافت، إبقاء كلام نصر الله دون رجع صدى (إسرائيلي) يمكن أن يساعد في فهم وقعه على قادتها وشعبها وجيشها ومدى التأثير الردعي الذي يخلّفه فيهما منطقيّاً ونفسيّاً، في محاولة لتفسير هذه الظاهرة يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
ـ اللافت، كما أشير إليه أعلاه، أن الصمت الإسرائيلي حيال تصريحات الأمين العام لحزب الله يشكّل سابقة هي خروج عن السلوك النمطي المعهود لتل أبيب إزاء استحقاقات من هذا النوع (تهديد ووعيد). كما يلاحظ أن هذا الصمت مُطْبِقٌ إلى درجة يشمل معها دائرة التعليقات الإعلامية، فضلاً عن دائرة الردود السياسية. يقود ذلك إلى استنتاج شبه مؤكد مفاده أن اللجوء إلى عدم التعليق هو قرار واعٍ، وليس وليد صدفةٍ، أو ظرفٍ منشأُه مثلاً تزاحم جدول الأعمال السياسي والإعلامي في إسرائيل.
ـ إن كان غياب التعليق، عموماً، يعني غياباً لمعطياتٍ يحول فقدانها دون قراءة مجدية للحدث، فإنّ الغياب في هذه الحالة يشكّل في حد ذاته معطىً قيّماً يجعل الحدث أكثر استدعاءً للقراءة، وذلك على قاعدة «الصمت أبلغ». بعبارة أخرى، يمكن القول إن الصمت الإسرائيلي هو، في الواقع، ليس سوى تعبير صريح عن موقف، لكن بطريقة أخرى.
ـ يمكن الافتراض أنّ أدلّ دلالات هذا الصمت الجدّية الكبيرة التي يوليها الإسرائيليّون لفحوى تهديدات نصر الله. كما يمكن الافتراض، استطراداً، أنّ اللجوء إليه إنّما يكشف معضلة حقيقية يواجهها صنّاع القرار في تل أبيب في معرض مقاربتهم لهذه التهديدات. فهم إن علّقوا، كعادتهم، بالتسخيف يدركون أنّ أحداً لن يعوّل على موقفهم في ظل «ثابتة» صدقيّةِ نصر الله التي يعترفون بها قبل غيرهم. أمّا إن علّقوا بالإقرار بجدية هذه التهديدات، فإنهم يعلمون أنهم يسهمون، من حيث لا يريدون، في تزخيم مفاعيل الحرب النفسية التي يتوخّاها نصر الله بتصريحاته ضد شعبهم وجنودهم، وخاصة في ظل إدراكهم لعقم التهديد المضادّ لعدوّ على شاكلة حزب الله. للتذكير: إيهود باراك نفسه كان قد أكّد أنّ صواريخ حزب اللّه قادرة على استهداف مكتبه في مقر وزارة الدفاع في تل أبيب. يشير هذا الكلام إلى صنف التعليقات التي يجد الإسرائيلي نفسه مضطرّاً لاستخدامها في معرض الردّ على تصريحات نصر الله، وهي تشي بالمعضلة المشار إليها أعلاه.
ـ يمكن الإشارة أيضاً إلى ترجيح وجود دافع ذاتي لدى أولمرت لإجهاض أي سجال يمكن أن يتولّد عن السماح بالتعليق على كلام نصر الله، ذلك أن التدرّج المنطقي في سجال كهذا سيقود حكماً إلى إطلاق علامات استفهام كبيرة، على مستوى السياسة والإعلام والرأي العام، تتعلّق بإنجازات الحرب المزعومة التي ما فتئ أولمرت يتغنّى بها.
إنّ اختيار الإسرائيليّين اعتماد سياسة الإعراض أو التجاهل في التعامل مع خطابات نصر اللّه، يشير حكماً إلى مدى التأثير الذي باتت تتركه هذه الخطابات في ظل الإقرار بالعجز عن مجاراتها؛ وهو تأثير، على ما يبدو، ضاقت قدرة التحمّل الإسرائيلية على استيعابه فاستنسبت التعامي عن مصدره.
تشبه إسرائيل المؤسسة بسلوكها هذا ذلك الإسرائيلي الفرد الذي التقطته عدسات الكاميرا وهو يحاول أن يقنع عائلته بالنزول إلى الملجأ إبان إحدى جولات المواجهة مع المقاومة قبل التحرير. منطقه كان بسيطاً للغاية: «إذا قال نصر الله إن علينا النزول إلى الملاجئ، فهذا يعني أن علينا النزول إلى الملاجئ». الفارق أن إسرائيل المؤسسة تختار قول ذلك بلغة الصمت.