
مشاركة:
منذ السادسة والنصف مساءً، التصق الناس بكراسيهم في ملعب »الراية« ومحيطه. لون المحتشدين البني الموحد أضحى أعلاماً بألوان الانتماءات: فلسطين، لبنان، »قومي سوري«، »حركة أمل«، بعض الشيوعي ومتفرقات عونية وأرسلانية، تحلّ ضيفةً على الأصفر الطاغي، وناسها يتصرفون كأنهم أهل الدار.
الفرحة لافتة جداً على الوجوه. لا تصادف العينُ عيناً، بين حشد »الأخوات« أو حشد »الأخوان«، إلا وتبادر بالابتسام. متفقون جميعاً على أن الحدث هو »عرس«، ولأجله يرفعون الأطفال إلى الأعلى. وحين ظهرت طفلة على الشاشات بملابس العروس، زاد الناس فرحاً والأطفال ثقةً بإمكانيات الظهور.
يوم أشبه بالكرنفال عرفه ملعب »الراية«. يلقي المرء التحية على أحدهم فيجيب محيطه كله بالهتاف والتصفيق، وبوجوه تضحك للمبادرة. وكلما خرج إليهم صوت الأمين العام لـ»حزب الله« السيد حسن نصر الله من مذياع الفرقة الغنائية، يصيحون يملأون الكون بهتافهم، ويشهرون الولاء في الهواء. تموج الأعلام عالية لتصنع طابقاً ثانياً للاحتفال، الأول أسمر بلون وجوه الصيف، والثاني أصفره طاغٍ بلون الحزب.
يجلسون ويجلسن كل في نصف ملعبه مع فصل صارم يؤمنه »الانضباط«، ويراقبون جميعاً على الشاشة العملاقة رحلةً من الناقورة إلى المطار فاللقاء والكلام وطريق الوصول إليهم، ويتفاعلون مع الرحلة. إن طل رجل يحبونه، يهتفون ويصفقون. وإن طل رجل لا يحبونه، يعبّرون كجماعة عن امتعاضهم، ثم يضحكون، قبل أن يموجوا لصورتهم على الشاشة. تسرّهم صورتهم منتظرين، لأنهم المبادرون إلى الخروج من منازلهم، وبالتالي مسك الختام، ولأجلهم سيرتفع الخطاب.
ماذا تعرف عن سمير يا محمد ياسين الحاج يا ابن الثامنة عشرة، وسمير أسير منذ ثلاثين عاماً؟ »مجاهد رفع راس شعبه اللبناني، ما عمل شي غلط وما وطّى راس اللبنانيين، بالعكس، دافع عن أرضه«. لكن محمد لن يجاهد، كبطله، لأنه عاجز عن حمل السلاح: »بس أنا بكمّل علمي، وبعطي طاقات علمي لأي ابن بلد«. مغترب مع عائلته في السعودية، ويتحضّر للتخصص في هندسة الاتصالات أو ميكانيك الطيران: »لأنو لبنان ما عنده الطاقة الطيرانية، بركي شعبه بيعطيه هيدي الطاقة«.
أخوه جاد يبلغ الرابعة عشرة من العمر، وعن اللحظة التي يعيشها يقول: »حاسس حالي قاعد بلبنان«. والناس من حوله يطالبون بالقول، وبالصورة، وبالتعبير ولو صياحاً عن وجودهم.
الحاج حسن عبيد (٦٧ عاماً) عاش مراحل طويلة من الصراع العربي ـ الإسرائيلي وهو في هذه اللحظة يؤمن بأن »زمن الهزائم قد ولّى« لأن »المقاومين قد تطوروا وصارت عندهم أفكار جديدة«. على كل حال، في هذا الحشد، تلاحظ حالة انصهار. الناس يجيبون على الأسئلة بكلام الأغاني، والأغاني تستقي كلماتها من خطب السيد الأثيرة: »كما كنت أعدكم بالنصر دائماً، أعدكم بالنصر مجدداً«، مثلاً. جملة تخرج من قاموس الكلام، لتضحي هناك أشبه بمحرّك قوته لا تنتهي، ولا ينتج تكرارها سأماً بل سبب للصياح مجدداً.
ويجب أن يُسجّل للنساء أن جهتهن من الحشد كانت الأكثر نشاطاً على مر الوقت، والوقت لم يكن قصيراً. أعلامهن دائماً مرفوعة، وجوههن دائماً متفاعلة، وقليلاً ما يجلسن. منيفة مرعي تعيش في السويد، ولقد أتت لأن »إلنا زمان ناطرين هيك شي يفرّحنا من قلبنا! الله يخليلنا السيّد والناس الأوادم اللي متله«. تتمنى أن »يحس السياسيون في هذا البلد على دمّهم ويذوقوا ويتفقوا على بناء وطن يعوّض على سمير ثلاثين عاماً قضاها في الأسر«.
ديانا الصغيرة (١٣ سنة) أتت برفقة عائلتها من بنت جبيل كي تشارك في استقبال الأسرى المحررين، وقد اتشحت بعلم فلسطين لأن: »بحب فلسطين«. ماذا يعني لها سمير؟ »متل خيي!«. أما سمر سهيل سلامة (١٠ سنوات) فهي من عيثرون، تقيم في معوّض، وتحب السيد لأنه لم يكذب يوماً عليها، و»الحزب ولا مرة خان«. سبب فرحتها الكبيرة واللافتة هو أن »سمير لم يرَ عائلته منذ ٣٠ عاماً، أكيد هني مبسوطين رح يشوفوا، أكيد السعادة بقلبهن، وأنا منشان هيك مبسوطة«.
على فكرة، منيفة الآتية من السويد تمنّت أمنية تقول إنه »أكيد ٩٠٪ ما رح تظبط«، إذ قالت: »متأملين إنو يجي السيد ونشوفه«.
ماذا جرى عندما رأته؟ لا أحد يعلم. فلقد وقف الناس وقفة واحدة، فتحوا فماً واحداً، به صاحوا حتى انقطاع الرمق، ثم التقطوا النفس وصاحوا مجدداً، ومجدداً، ومجدداً، والأيدي مرفوعة في الهواء، تستسلم، تلقي التحية، تهتز، الأيدي كلها إلى الأعلى، أعلى من الأعلام.
كانت لحظة من خارج الزمن، كأن غشاءً غطّ على العيون وشبّه لها الواقع بالحلم. منظر استثنائي، فلا أحد توقع حضوره، وإن تمنوه. ولقد حلّ في لحظة تصاعد عاطفي بلغ ذروةً ثم أخرى فجنّ جنون الحشد. بدأت هذه اللحظة بكلام العريف الذي من المفترض أن يمهّد لوصول الأحرار. لكن، بسرعة، قاطعه صوت جهاز الإرسال يقول »،١٠١ عمليات«، ما أوحى بأن فضحاً لسلك أمني قد أصاب كل هذا التنظيم الصارم، وخلّف تردداً على الوجوه، قاطعته عبارة عميد الأسرى: »معك سمير القنطار، رجعت وكل الشباب معي«. ضاع الناس لثانية حسمها خروج الأحرار من أسر الديكور، فارتفع الصياح وطار الحمام ولم يكد الناس يهدأون حتى ظهر السيّد، فانفصل العقل عن تلقي المعلومات وانصرفت الأجسام للتعبير، بذاك الصياح وتلك الأيدي.
الدقائق القليلة التي قضاها أمام الناس جعلت حشدهم تاريخياً. شعروا بخروج اللحظة عن سياق نهارهم الطويل، وهم يعيشونها. فكانوا في داخل أجسامهم، وخارجها. وقد بدا ذلك جلياً في العيون.
وعندما اعتلى عميد الأسرى المنبر ليقول لهم كلمة، سارعوا في العودة إلى الوعي، وابتكار هتاف له، فكان: »سمير، سمير« مع ثلاث تصفيقات، وعادت الأعلام لتغطي الرؤوس. كأن الناس معجونون بطاقة أسبوع يصرفونها في نهار واحد، لا يكلّون، لا يهدأون، ثم يغنون مع الفرقة كلما عزفت الفرقة. وعندما أعادت مكبّرات الصوت نداء »١٠١«، كرره بعض الحشد معها. لقد حفظوه.
الناس ينصتون على طول الوقت. ليس للسيد أو للعميد المحرر أو لكلمات الأغنيات فحسب، بل ينصتون أيضاً لكلام عريف الحفل، ويتفاعلون معه، ما يفاجئ المتفرج على حالهم. وهي مفاجأة تضاف إلى تلك السعيدة التي جسّدها الالتزام التام بعدم إطلاق النار، والاستعاضة عنه بالمفرقعات، تخترق فضاء الصوت كلما احتاج المواطن إلى ذروة في التعبير، ولم يعد يجد في رصاص الابتهاج أداته لذلك.
أنهى السيد كلمته المتلفزة، فبدأوا يتحركون في اتجاه المخارج. ألقى بعض رجال الانضباط قيودهم عن المداخل والمخارج، وبقي آخرون في مواقعهم، يعملون. خرج الناس، أعلامهم على أكتافهم، يملأون الطريق الواسع، متراصّين كأنهم في مسيرة. يصيح فرد: »الله، نصر الله، الضاحية كلها«، فيخرق صمتاً أرسته كثرة الصياح، على الأرجح. ثم يلقي شبّان آخرون بالنكات لبعضهم، بينما تتحادث فتيات عن سهى بشارة. دقّة طبل تخرق الأذن، بلا هتاف، فصاحب الطبل لم يكتفِ بعد منه. المحال المضيئة على الجانبين توحي بأن الحادية عشرة ليلاً ليست وقتاً متأخراً، بل موعد طبيعي لنهاية خطاب. ملحمة، بائع أقمشة، محمصة، بائع أجهزة خلوي. طفلة تبكي، طفلة نامت، وطفلة استيقظت للتو من غفوتها بحماس. فهو الليل، وهي في الشارع، والشارع لم ينم. زمور يصدح باحثاً عن طريق. آخر يعلن وجود سيارة إسعاف. وثالث لا يزال يحتفل.
خرج الناس من الملعب ومحيطه إلى شوارعهم، وجاءوها ببعض ما عاشوه في الداخل. جاءوها بحماسة من سمع وعداً في يوم من الأيام، ورآه يتحقق أمام عينيه.
ولقد حصل ذلك في لبنان.