يوم بألف يوم على أمهات الأسرى المحررين:كم مرة تخيلن لحظة العناق .. وعودة الروح

مشاركة:

يوم بألف يوم. هكذا مرّ أمس على عائلات الأسرى المحررين. يوم حاولت أم سمير أن تتخيله مئات المرات على امتداد ثلاثين عاما.. »يوم عظيم« كما تقول لكنه بدأ بالقلق والخوف من أي مشكلة قد تمنع استكمال عملية التبادل.

عند الساعة الحادية عشرة صباحا، وصلت أسرة سمير القنطار إلى الضاحية الجنوبية آتية من عبيه. بضع سيارات ضمت والدته وإخوته وأولاد إخوته الذين ولدوا بعد أسر سمير. ارتدوا أبهى ملابسهم وقد غلب عليها اللون الأبيض. هم لم يناموا ليل أمس الأول، ومن نام منهم استفاق باكرا.

في استقبال العائلة، كان مسؤول الجمعية اللبنانية للأسرى والمحررين الشيخ عطا الله حمود وكذلك الأسير المحرر نسيم نسر. ساعة ونيف قضتها العائلة في الضاحية في مقر الجمعية بانتظار أن يرشح أي خبر عن تحرك الخمسة المحررين نحو الناقورة.

طال الانتظار وانضمت إلى العائلة السيدة فدوى البرغوثي زوجة الأسير مروان البرغوثي. »وعدت سمير أن أكون في استقباله في بيروت مع العائلة« قالت لـ»السفير«. حضرت مساء أمس الأول من الضفة الغربية لتشارك عائلة القنطار فرحتها »وأقف إلى جانب امرأة عظيمة ومؤمنة«..

هي أيضا تنتظر أن يأتي اليوم الذي تستقبل فيه زوجها. ورؤيتها لسمير محررا تزيد من أملها في أن يلقى زوجها المصير نفسه. فمروان تشارك الحياة لسنوات مع القنطار في »القسم ٣« من سجن »هداريم« وقد احتفل الاثنان أمس بتحرير سمير. »وضع مروان هو كوضع سمير، معقد جدا، والتفاوض الذي يجري اليوم من أجل إطلاقه في مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط صعب. ولكني أتمنى أن يبقى المفاوضون صامدين في مواجهة الضغوطات الكثيرة التي يتعرضون لها… على أمل أن نحصل على صفقة مشرفة كالتي حصلت عليها المقاومة اليوم«.

عيون أفراد الأسرة مسمرة على شاشة التلفزيون بانتظار أن يرشح أي خبر عن بدء تحرك الأسرى باتجاه الناقورة. تظهر أم جبر على الشاشة. هي السيدة الفلسطينية السبعينية التي تبنت سمير في معتقله. عائلة القنطار كانت في انتظارها لتأتي وتستقبله معها في بيروت غير أن سلطات الاحتلال منعتها من الخروج من غزة. لكن صوت الأم الفلسطينية وصل.

ساد الصمت والإنصات عندما بدأت بالكلام. »فرحت لخبر تحرير سمير أكثر مما فرحت لتحرير ولدي جبر« قالت ثم وجهت كلامها إلى سميرة، شقيقة سمير، تطلب منها أن تفرح كما فرحت هي برؤية ابنها بالتبني يمشي طليقا. تنهمر الدموع من عيني سميرة ووالدتها وإخوتها. »هي سيدة عظيمة« تقول أم سمير، »قليلات هن النساء على شاكلتها«.

»كم تحتاج الطريق للوصول من المعتقل إلى الناقورة؟« تسأل العائلة الأسير المحرر نسيم نسر عله يفيدها من خبرته في محاولة لحساب وقت الانتظار الباقي. »ساعتين ونصف ساعة« يجيب نسيم. فهو الذي خبر الاعتقال وفرحة التحرر قبل نحو الشهر وما زالت التجربة ماثلة في ذهنه.

يستعيد نسر بعضا من الذكرى »لا بد أن الأسرى المحررين اليوم يشعرون بحال من الصدمة المخلوطة بالقلق والفرح. في هذه الحال أنت تفكر فقط كيف ستستقبل أمك أو أختك. لا بد أن قلب سمير ينبض بشدة وهو لم ينم منذ اليوم الذي عرف فيه أنه سيفرج عنه… ربما لا ينبغي أن يخبر المعتقل أنه سيفرج عنه إلا في اليوم نفسه!« يقول لـ»السفير«.

ماذا على سمير أن يتوقع بعد خروجه من السجن؟ »لا شيء يقول نسيم »فمهما كانت معنوياته عالية ومهما كان يعرف عما في الخارج إلا أن مواجهته والتأقلم معه تجربة أخرى… حتى الاحتفال الذي سيحضره في الناقورة لن يتذكر منه شيئا. هذا ما حصل لي. سيصافح أو يعانق أحدهم عشر مرات وفي كل مرة يشعر وكأنه يصافحه للمرة الأولى..«.

الصبر كان عملة صعبة أمس. عند الثانية عشرة والنصف ظهرا انتقلت العائلة إلى مقهى على طريق المطار. هناك اجتمعت عائلات الأسرى الخمسة. إجراءات الضيافة مرة أخرى ثم الانتقال إلى المطار أخيرا.

على الطريق بشائر الاحتفال ماثلة : الأعلام ترفرف وكذلك الصور. كان الشيخ عبد الكريم عبيد في استقبال أهالي الأسرى وانتظر معهم ساعات طويلة عودة أبنائهم في قاعة خاصة جهزت بتلفزيون ينقل صورة تلفزيون »المنار«. كان الإحساس بالقلق يتزايد. ساعة من الانتظار ثم يقرر الشيخ عطا أن يصارحهم »قد يتأخر وصول الأسرى إلى المطار حتى السادسة والنصف«. بدا أن إسرائيل قررت بالفعل أن تنغص على الأهالي فرحتهم. يرتفع ضغط سميرة نتيجة الخبر وتفقد قدرتها على الكلام. يحيط بها أفراد العائلة ويحاولون التخفيف عنها. لكن لا فائدة. يستدعى طبيب للاهتمام بها وإخراجها من الجو المحتقن في القاعة.

والدة الأسير محمد سرور بدأت تتعب من الانتظار. هي حضرت مع عائلتها من عيتا الشعب منذ الصباح الباكر. »نشعر وكأننا نعيش تجربة الأسر معهم الآن.. على أمل أن نتحرر عند رؤيتهم«.

يدخل الصحافيون والمصورون ثم يخرجون… أفواج منهم لا تنتهي. الانتظار طال خمس ساعات. يأتي خبر لأحدهم على الهاتف أن الأسرى اقتربوا من معبر الناقورة. تبدأ الأسارير بالانفراج. الساعة السادسة وبضع دقائق، تنقل الصورة التلفزيونية وصول أولى السيارات التابعة للصليب الأحمر. تتسمر العيون ويسود الصمت قليلا. يظهر سمير من وراء زجاج إحدى السيارات. يرتفع التصفيق في القاعة ثم ما يلبث أن يتحول إلى بكاء وذهول.

يحاول كل أن يلتقط صورة ابنه داخل السيارات العابرة أمام الكاميرات. بعضهم يفلح وبعضهم يفشل. يبدأ الرسميون بالدخول إلى القاعة لتهنئة الأهل. أولهم الرئيس نبيه بري وأعضاء كتلة الوفاء للمقاومة والوزير غازي العريضي. ثم تكر السبحة: الرئيس فؤاد السنيورة يدخل فيصافح الجميع ويعانق والد الشهيد عماد مغنية؛ ثم النائبان سعد الحريري وبهية الحريري اللذان حظيا بتصفيق كبير. ليدخل بعدهما النائبان طلال أرسلان. يقترب فضل، الأخ الأصغر للأسير حسين سليمان من العماد ميشال عون، يتكفل الشيخ عطا بتعريفه عليه فيطبع قبلة على جبينه ويحضنه. وزراء ونواب ورؤساء أحزاب يدخلون تباعا. غطى دخولهم على ما يحصل في الناقورة حتى انطلقت المروحيات من هناك تنقل الأحباء. بضع كلمات لسمير على التلفزيون من دون صورة. دموع أخرى يثيرها سماع صوته. عناق بين الأهل من جديد.

انتظار آخر وتعريف بالإجراءات. بدا المنظمون قلقون من رد فعل الامهات والأخوات والزوجات. طلبوا منهن مرات عدة أن يكبتن عواطفهن بضع دقائق فقط من أجل البروتوكول قبل أن يفتح الباب للخروج واستقبال الآتين.

الرجال أولا ثم السيدات.. يخرج الحاج أبو عماد مغنية وراءهن. الدموع تترقرق في عينيه »كأن عماد موجود وهو الذي يقوم بعملية التبادل«. لا يكمل الجملة فالغصة أقوى »الحمد لله« يقول لـ»السفير«.

تحت خيمة الانتظار، يحاول كل أن يلاحظ المكان الذي يقف فيه ولده على المنصة. لا يمكن التركيز على الكلمات الرسمية. »أين هم؟ لماذا هذا التأخير؟« يقترب الأسرى شيئا فشيئا من مكان وجود الأهل. سمير في طليعتهم. يتزاحم المصورون عليه. تدب الفوضى وتدفع النساء إلى الخلف في سبيل صورة يلتقطها مصور للحظة العناق التي طالت بين سمير وشقيقه بسام. صراخ وتدافع يجعل الأهل غير قادرين على الوصول إلى أحبتهم. في النهاية تتمكن أم سمير وشقيقاته من استراق قبلة ومعانقة قصيرة كانت وحدها كافية لأن تعيد الروح إلى زمن توقف عن الخفقان قبل ثلاثين عاما.