
مشاركة:
الصراخ الذي يتسلّح به قياديّون من فريق 14 آذار على أنواعه، لن يكون كافياً لقلب المشهد الذي لا يتصل فقط بالحسابات المحلية. والكلام الذي يتخذ طابعاً تحريضياً بخلفية مذهبية أو سياسية أو غير ذلك، لن ينفع أيضاً في تغيير المشهد السياسي
المتحكّم في مصير اللعبة السياسية اللبنانية. والأمر برمّته سيظل رهن من بيده الأمر خارج البلاد. ليس لأن مَن في لبنان عاجزون عن المبادرة باتجاه حل أو معركة، بل لأن موضوع الخلاف ليس من نتاج محلي صرف، بمعنى أن الانقسام السياسي الداخلي حول الدولة وهويتها ومؤسساتها ودستورها وأمنها وسياستها الدفاعية والخارجية والقضائية والتربوية، ليس وحده من يتحكم في جدول الأعمال متى فتح المزاد.
لسوريا وإيران تأثير كبير في لبنان، وعلى قسم كبير من قوى المعارضة وفي مقدّمها حزب الله. لكنّ حيثية الحزب الداخلية، سواء تلك التي قامت خلال سنوات نموّه كجهة سياسية، أو بفعل تضحياته، جعلت منه، رغب كثيرون أو لا، قوة قادرة على تحقيق التوازن بين ما يقوم به وبين أولوياته المتصلة بأفكاره، والمصالح المترتّبة على علاقاته بسوريا وإيران. وفي مقابله، كان الرئيس رفيق الحريري قبل اغتياله يعمل على إقامة توازن شبيه في علاقته مع الولايات المتحدة الأميركية والسعودية، وحاول في الفترة الأخيرة إقامة برنامج تفاعل مع المقاومة، رغم أن الصيغة التي كانت في رأسه لا تناسب الأميركيين على الإطلاق.
لكن في لبنان اليوم، هناك مشكلة كبيرة مع الرئيس سعد الحريري ومع غالبية القوى والشخصيات المنضوية في فريق 14 آذار، سواء تلك التي خرجت أو ما زالت أو تقف عند الناصية تراقب نتائج المواجهة القائمة، في أنها لا تملك الحرية ولا حتى الهوامش التي تتيح تحقيق مثل هذا التوازن. وهو أمر يمكن متابعته لا فقط من قبل الجمهور، بل الأهم أنها متابعة من قبل السياسيين المفاوضين للرئيس الحريري، إذ إن بعض هؤلاء صاروا أقرب إلى اقتناع بأن يتولّوا التفاوض مع الآخرين في واشنطن والرياض حيث يحسمون الأمر هناك، وهم على اقتناع، بحسب التجربة، بأن الحريري سيلتزم بها، وهو الأمر الذي رافق الكثير من الخطوات التي أقدم عليها الحريري منذ تأليف الحكومة الحالية إلى تصريحاته الأخيرة في «الشرق الأوسط».
ما سبق هو إشارة إلى أن البحث الفعلي قائم الآن خارج البلاد. في العراق مشهد معقّد للغاية ويشي بتطورات استثنائية ستنعكس بقوة على المشهد السياسي الإقليمي وعلى لبنان مباشرة أيضاً. والتراجع الذي أقدم عليه الأميركيون لجهة التراجع عن تعهّد للسعودية ومصر ودول عربية وغربية أخرى بالوقوف خلف إياد علّاوي رئيساً للحكومة، والقبول بإبقاء نوري المالكي في هذا المنصب، هو خطوة لها أسبابها الموضوعية المتصلة بالحسابات الأميركية الخالصة من أي اعتبار يخصّ مصالح العراق نفسه أو مصالح القوى الحليفة، وهو ما انعكس إحباطاً وخيبة كبيرة لدى السعودية خاصة، التي كانت قد فتحت موضوع لبنان ضمن سياق يتصل بالملف العراقي نفسه. والدور السوري الإضافي بما خصّ العراق إلى جانب لبنان، وصولاً إلى ملف فلسطين، يجعل التوازن الخاص بالإدارة السورية – السعودية – الأميركية للبنان، مختلفاً عمّا كان عليه غداة الانتخابات النيابية التي جرت في العام الماضي، وهو نقطة الفصل في ما حدث.
الأمر الآخر، وهو أيضاً ببعد خارجي، يتصل بأن ملف التحقيق الدولي الواصل إلى المحكمة الدولية، ليس موضوعاً محلياً فقط، لا بإدارته فقط، بل بتفاصيله وبتفاصيل عمل المحققين العاملين في لجان التحقيق وفي المحكمة الدولية. وهو المتصل بالمشروع الأميركي – الإسرائيلي الهادف إلى إنهاء نفوذ أو وجود أو تأثير أي قوة سياسية أو رسمية لها تأثيرها على مشروع التسوية الأميركية في المنطقة. وليس هناك حاجة إلى مزيد من الشرح أنه عندما استنفد اتهام سوريا دون نتائج، لجأ القائمون على الملف إلى نقل الاتهام صوب المقاومة، وهم يتوخّون أزمة تشغل حزب الله في الحدّ الأدنى، أو فتنة تصيبه بوهن وتجعله غير قادر على تهديد إسرائيل في الحد الأقصى. ويبدو أن هذا الفريق كاد يصل إلى اقتناع بعدم جدوى هذه المحاولة أيضاً.
ولأن ملف المحكمة ليس متروكاً لأحد في لبنان، فإن الجهود الفعلية قائمة الآن في الخارج، حيث ينتظر كثيرون نتائج مداولات مهمة ستقوم على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال الأسبوعين المقبلين، وسيكون لها أثرها الكبير على مسار التحقيق الدولي وعلى القرار الاتهامي وعلى عمل المحكمة برمّته.
لكن في انتظار نتائج هذه الجولة، يبدو أن فريق 14 آذار معنيّ بتنفيذ التزام يقوم على إطلاق كثيف للنار يمكن الاستفادة منه خلال التفاوض، وهي نار قد تأتي على أشياء كثيرة في البلاد، الأمر الذي يفسّر مواصلة رئيس الحكومة إجازته البحرية بينما تشتعل بيروت بالتصريحات النارية، وأن يعمد الآن إلى ربط النزاع منتظراً المزيد من الاتصالات، وأن تمر جلسات مجلس الوزراء من دون نتائج مهمة اعتقاداً منه بأن في ذلك ما يفيد من يتفاوض باسمه في الخارج على مصير بلد، علماً بأنه يعرف أن الإجراء الذي يسحب فتيل الأزمة، داخلياً على الأقل، بسيط، مثل تنحية من يمكن أن يكون مفتاح حل لا مشكلة.