
مشاركة:
قيل الكثير عن انعدام الخبرة لدى رئيس الحكومة سعد الحريري وجهله بالآليات التي تنظّم عمل المؤسسات في دولة تصرّ على الادعاء يومياً أنها «ديموقراطية»… لكن ما جرى في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة لجهة الإصرار على حرمان البلديات
حقوقها الثابتة في الأموال التي تجبيها وزارة الاتصالات نيابة عنها، يُعطي مثالاً واضحاً على أن «الجهل وانعدام الخبرة» في مجال إدارة السلطة، يمكن أن يؤدّيا إلى نتائج كارثية على المستويات المختلفة.
فالرئيس الحريري بدا في تلك الجلسة مقتنعاً بأن الخزينة العامّة، لا البلديات، تتحمّل كلفة لمّ النفايات والتخلّص منها. لذلك، رفض رفضاً قاطعاً أي بحث جدّي يؤدّي إلى تسديد نحو 1463 مليار ليرة متراكمة كديون على وزارة الاتصالات للبلديات، مشيراً، انطلاقاً من الاقتناع نفسه، إلى أنه لا يجوز أن تدفع الدولة للبلديات مرتين: مرّة عبر عقود شركة سوكلين ومثيلاتها، ومرّة أخرى عبر تسديد الرسوم المفروضة على فواتير الهاتف الخلوي، التي تجبيها وزارة الاتصالات لمصلحة البلديات بحسب ما ينص عليه القانون.
ما قاله الحريري كان محرجاً جداً لفريقه من الوزراء الحاضرين، ولم تفلح المحاولات لثنيه عن استكمال حديثه عبر أخذ الكلام إلى مجال آخر، ما اضطر وزير الداخلية والبلديات زياد بارود إلى التصحيح له بأن «كلفة لمّ النفايات ومعالجتها تتحملها البلديات وحدها عبر الصندوق البلدي المستقل»، كاشفاً عن سرّ يرفض الحريري نفسه الإفصاح عنه، إذ قال «إن الصندوق البلدي المستقل لا يدخل إليه سوى 250 مليار ليرة سنوياً من أصل 600 مليار ليرة، أي إن 350 مليار ليرة تذهب سنوياً لتمويل عقود شركات سوكلين ومثيلاتها».
لم يكتف بعض الوزراء بالتصحيح الذي تولاه زميلهم بارود، فذهب أحدهم إلى الإيضاح بقوله إن «حساب بعض البلديات مدين لتسديد السلفات إلى سوكلين ومثيلاتها»، فيما شرح آخر لرئيس حكومته كيف فُرضت عقود سوكلين ومثيلاتها على 345 بلدية من دون موافقة أي منها. فقد كُلِّف مجلس الإنماء والإعمار بتلزيم لمّ النفايات منذ عام 1997، نيابة عن سلطات محلية تتمتّع بالاستقلالية القانونية التامّة، ولم تجرِ تسوية هذه المخالفة الفاضحة إلا بمادّة مشكوك بشرعيتها وردت في قانون موازنة عام 2002، أي بعد 6 سنوات من نشوء هذه المخالفة.
طبعاً، لم يعتذر الحريري عن عدم إلمامه بهذه الحقائق، علماً بأنه في جلسة سابقة لم يخف غضبه من سؤال تجرّأ وزير السياحة فادي عبّود على طرحه لمعرفة قيمة عقود سوكلين ومثيلاتها، ولا سيما بعدما زفّ الحريري بشرى نجاحه في إقناع صديق عائلته ميسرة سكّر بخفض قيمة عقوده بنسبة 4% فقط لا غير… لكن ما أدلى به الوزير بارود عن السحوبات من الصندوق البلدي المستقل، الموضوع في عهدة وزارة المال خلافاً لقانون إنشائه أيضاً، يفسّر سبب هذا الغضب، فعقود لمّ النفايات تكلّف البلديات أكثر من 233 مليون دولار سنوياً، أي أكثر من 19.4 مليون دولار شهرياً، أو 648 ألف دولار مع كل طلعة شمس!
ولأن الحريري ليس من النوع الذي يقرّ بالخطأ، ولا يعترف بفضيلة الرجوع عنه، هرب بموقفه إلى خطأ لا يقل فداحة، إذ ردّ على التصحيح والتوضيح بأنه إذا وافق على تسديد الديون المستحقة للبلديات، فإنه سيطالب بحصة 50% منها لبلدية بيروت وحدها، داعماً موقفه بأن المدينة التي يمثّلها في البرلمان تضمّ 50% من السكّان! وهنا أيضاً بدا الحريري مقتنعاً بما يقول، وهو بذلك بدا مفتقراً إلى أدنى مستوى للثقافة السياسية العامّة، التي تُلزم السياسي بالاطلاع على بعض المعطيات الديموغرافية والحدود الجغرافية للمدن والبلديات. فكلام زعيم الأكثرية النيابية، ورئيس كتلة المستقبل وتكتل لبنان أولاً، لا يعلم ما هي حدود بيروت الإدارية، ولا يعلم أن عدد المسجلين فيها لا تتجاوز نسبتهم 9% من السكّان! والأهم أنه يسقط، من حيث لا يدري، كل خطاب فريقه الذي يعدّ بيروت ملكاً لفئة مذهبية معينة لا تمثّل عددياً هذه النسبة على مستوى لبنان كلّه.
لم يستطع أكثرية الوزراء إخفاء ابتساماتهم الصفراء عندما سمعوا هذا الكلام يصدر عن رئيس حكومة «كل لبنان» ونائب يمثّل «الأمّة»، لا «بيروت أولاً وآخراً»، فاضطر مرّة أخرى إلى أن يبحث عن حجّة أخرى يبرر فيها إصراره على حرمان البلديات حقوقها القانونية، فقال «إن تسديد الديون المستحقة للبلديات يزيد الدين العام». وهذا الموقف أيضاً يدلّ على الاستهتار بالحقوق القانونية وعلى الإصرار على متابعة سياسات السنيورة (الخط الأحمر) الساعية إلى تجميل حسابات المالية العامّة عبر إخفاء قيمة دين الدولة الفعلي ومراكمة المتأخّرات وعرقلة التنمية المحلية والتشديد على مركزية بيروت المطلقة.
فرئيس الحكومة لا يستطيع في جلسة رسمية لمجلس الوزراء أن يدّعي أنه يجهل أن وزارة المال تقترض أكثر من حاجات الدولة التمويلية، وأن مصرف لبنان يحمل أكثر من 33 ألف مليار ليرة من شهادات الإيداع (ديون) بالليرة وبالعملات الأجنبية، أي إن الدين العام يرتفع وتُسَدَّد الفوائد عليه من أموال الضرائب، من دون استثماره في أي من «أولويات المواطنين» التي عنونت هذه الحكومة بيانها الوزاري.
لقد فشل الحريري في حشد أي تأييد لمواقفه المبنية على أساسات خاطئة، لكنه رفض أيضاً تأليف لجنة وزارية لدرس الاقتراحات في شأن كيفية تسديد الديون للبلديات. ولكي يبرر ذلك، نطق بموقف خاطئ جديد ينم عن جهله بالدستور والقوانين المرعية الإجراء، فقال، كمن يضع النقاط الحروف: «الدولة لها موازنة واحدة، وعلى وزير الاتصالات أن يرسل الأموال إلى وزارة المال»، ونقطة على السطر… فلم يستوعب معظم الوزراء هذا الموقف، فهل يعقل أن يكون رئيس الحكومة غير آبه بالدستور والقوانين، ويريد أن يلغي ـــــ على هواه ـــــ استقلالية البلديات ومجالسها المنتخبة ووضعيتها القانونية بوصفها سلطات محلية لا سلطة للحكومة عليها؟ وكيف يمكن الحريري نفسه أن يزعم أنه يؤيّد اللامركزية الإدارية الضيقة أو الموسّعة إذا كان مقتنعاً بأن البلديات ليست لها موازنات مستقلة عن الحكومة؟
هذه عيّنة من مسلسل طويل عن رئيس حكومة يفتقر إلى الأدوات الضرورية والملزمة لإدارة الحكم، وفي مقدمها: المعلومات الصحيحة والإلمام بالأحكام الدستورية والقوانين، حتى عندما ينوي مخالفتها عن سابق تصوّر وتصميم.