
مشاركة:
موجة الحر التي فاجأت اللبنانيين هذا الصيف، تزيد من ضيق صدورهم، نتيجة الأوضاع الاقتصادية، وايضاً الأمنية المستجدة والمنتظرة التي يعيشونها، شكلت سبباً في اعتلال صحة الكثيرين منهم، كباراً وصغاراً،
جراء درجات الحرارة المرتفعة التي سادت الأجواء قياساً بالمعدل العام السنوي. وانسحبت تداعيات هذا الارتفاع على المحاصيل الزراعية، خصوصاً في البقاع، ما تسبب في خسائر كبيرة للمزارعين. ومن جهة ثانية لم يكن تجاوز درجة الحرارة الـ 25 درجة مطلع كانون الثاني الفائت سوى مؤشر الى الإرتفاع غير الطبيعي لمعدل الحرارة في لبنان هذه الأيام إذ تجاوزت الـ 40 درجة، ولم توفر الجبال التي عادة ما يقصدها اللبنانيون والعرب للتمتع بطقسها المعتدل.
اضحى مشهد حرق الإطارات المطاطية على عدد من الطرق الرئيسية في لبنان طبيعياً للاحتجاج على انقطاع الكهرباء، علماً ان وزير الطاقة والمياه المهندس جبران باسيل "زف" البشرى المرّة الى اللبنانيين قبل أشهر عدة، محذراً من تزايد ساعات التقنين في فصل الصيف. لكن ما زاد الطين بلة الإرتفاع غير الطبيعي لدرجات الحرارة في الأسبوعين الفائتين وتوقع استمرار موجة الحر بسبب الكتل الهوائية الحارة جداً الآتية من شبه الجزيرة العربية، وفق مصلحة الأرصاد الجوية في مطار رفيق الحريري الدولي. ويضيف خبراء في تلك المصلحة ان اسباب هذا الارتفاع يعود الى المتغيرات المناخية التي تجتاح العالم، وبالتالي ارتفاع معدل درجات الحرارة، والأمر ينسحب ايضاً على الفصول الأخرى اي ايام الصقيع لأن التصحر بات يعد العدة للسيطرة على بعض المناطق في العالم.
حرارة المرضى مرتفعة
انعكس ارتفاع الحرارة غير المسبوق في لبنان سلباً على المواطنين وسجلت حالات مرضية عدة ابرزها زيادة عدد المصابين بالإسهال ونقص السوائل في الجسم، اضافة الى حالات دوار بسبب ارتفاع الحرارة. وزاد سلبيات لهيب آب انقطاع الكهرباء ولأسباب لم يعد ذكرها يجدي لأنها أضحت مثل قصة "ابريق الزيت" ولا علاج لها ولا من يعالجون.
اما الطامة الكبرى فتكمن في المثل الشعبي القائل "رضينا بالهم والهم ما رضي فينا" لأن مولدات الإشتراكات ستتوقف هي الأخرى لساعات عدة في النهار بسبب ارتفاع الحرارة، علماً ان اسعار الإشتراك فيها مرتفعة ايضاً. اما في الليل فان ارتفاع درجة الرطوبة يؤثر ايضاً على استمرار تشغيلها ما يعني ان "المصيبة" تلاحق اللبناني من الجهات الأربع. وتنسحب الآثار السلبية على المواد الغذائية، وخصوصاً الأجبان والألبان إذ أن امكان اصابتها بالتلف كبيرة وكذلك اللحوم وغيرها، ما يفاقم من الأزمة ويكبد المواطنين اعباء اضافية، علماً ان موجة الغلاء اضحت على الأبواب ومن المفترض ان تقتحم الديار منتصف الأسبوع المقبل مع حلول شهر رمضان المبارك، إذ يستغل التجار هذه المناسبة ويزيدون من اسعار المواد الغذائية والخضر والفاكهة كما جرت العادة.
ومن جهة ثانية يتذمر بعض اصحاب المطاعم والمقاهي من ارتفاع الحرارة وللأسباب عينها الآنفة الذكر، ووفق صاحب مقهى الجسر في الضاحية الجنوبية عبد النبي شريم، ان ارتفاع الحرارة في الأسابيع الفائتة كبّده خسائر جمة منها اضطراره الى شراء مولد كهربائي خاص للمقهى بـ 12 الف دولار اميركي لأن مولدات الإشتراك تتوقف بسبب زيادة الطلب عليها وارتفاع الحرارة. ويضيف: "خلال الأسبوعين الفائتين تكبدنا خسائر غير قليلة لأن الزبون لا يدخل الى المقهى في حال كانت اجهزة التبريد معطلة، كما اضطررنا الى رمي بعض المنتجات، مثل البوظة وغيرها، بسبب انقطاع الكهرباء وتوقف المولدات عن العمل ولا احد يعوض علينا وقال انني فضلت العودة الى بلدي للعمل في ربوعه لكن يبدو ان حزم الحقائب من جديد بات قريباً". اما جاره محمد صاحب محل صغير للالبان والاجبان فيشكو انقطاع الكهرباء وارتفاع الحرارة لتسببهما بالخسائر الفادحة ويشرح: "منذ اسبوعين لم اعد اشتري البوظة والالبان والاجبان رغم كثرة الطلب على هذه الاصناف لانني اضطررت الى رمي اكثر من 5 كيلوغرامات من جبنة القشقوان ومثلها من اللبنة عدا عن صناديق البوظة بسبب الحر الشديد وانا لا اتحمل هذه الخسائر لأن موازنة محلّي متواضعة ومثل هذه الخسائر يهدد مستقبلي التجاري المتواضع".
المزروعات: اضرار وخسائر
ربما هي الــمــرة الأولــى التي يشهد فيها مزارعو البقاع هذا الكم الهائل من العنب "المشلهب" بسبب ارتفاع درجات الحرارة، لأن المنطقة تشهد كسواها من المناطق اللبنانية موجة حرّ مخيفة ليس فقط على مستوى ارتفاع حرارة الشمس وحدّتها، بل أيضاً على صعيد الرياح الشرقية الحارة. هذه الاسباب تدفع المزارعين الى تحويل العنب مباشرة عصيراً للحصرم كي لا يذهب سدى وللتخفيف من الخسائر التي تلم بهم في هذا الفصل، علماً ان الفصول الاخرى ليست افضل حالاً من الصيف وغالباً ما تتسبب الفيضانات والسيول في تلف مواسم المزروعات الا ان موسم الصيف هو الاكثر انتاجاً للمزارعين وخصوصاً في البقاع. وهذا العام يكون المزارعون قد خسروا الــمــوســم في شكل نهائي ومبكر، إذ إن اكثر من ثلثي محاصيل العنب قضت عليها الحرارة المرتفعة"، وفق ما يقول بعض المزارعين، علماً ان الري لم يعد مفيداً في هكذا حالات وليس امام المتضررين سوى الترقب وتوديع مواسمهم، على امل ان تسارع الحكومة والهيئة العليا للاغاثة إلى التعويض عليهم، خصوصاً لان معظم هؤلاء ينتظرون موسم العنب لسداد قروضهم المصرفية او لتعليم اولادهم ودفع اقساط المدارس والجامعات.
الحرائق ايضاً في المرصاد
لا تقتصر الاضرار الناجمة عن ارتفاع الحرارة على المزروعات وحسب، انما تتخطاها الى الغابات والاحراج. وليس فصل الصيف في لبنان الا مناسبة لفقدان ألوف الاشجار بسبب الحرائق والمساحات التي تقضي عليها الاخيرة هي الأكثر أهمية للبلد، وتكفي نظرة الى الصور الجوية لمعرفة حجم المساحات الخضر التي تحول لونها الى الاسود. ومن نافل القول ان ارتفاع الحرارة يؤدي بطبيعة الحال الى زيادة الحرائق، ولكن لا يمكن إغفال الأسباب المباشرة، كالتعشيب الذي يفتعل حريقاً صغيراً سرعان ما يتسع مع الحرارة المرتفعة علماً ان الحرائق التي يشهدها لبنان فــي هــذا الشهر بالذات غالبًا ما لا تكون كارثيّة لأنها لا تترافق مع هواﺀ سريع تماماً كالذي يشهده شهرا أيلول وتشرين الأول".
ورغم أنه ليس هناك من ارقامٌ دقيقة بالنسبة الــى المساحات المتآكلة بسبب الحرائق، يمكن القول إنها تلامس الألف هكتار ليس فقط كمساحاتٍ حرجية بل أيضًا كمناطق عشبية ومساحات زراعية. كما من المعهود أن يشهد شهرآب العدد الأكبر من الحرائق على مدار السنة.
ووفق تقارير منظمة "غرين بيس" العالمية، فإن "ارتفاع الحرارة يؤدي إلى عواقب وخيمة على الاقتصاد والسياحة، وبالتالي الخدمات، وهي قطاعات تميز لبنان في المنطقة". اما الخبراء فيفسرون ارتفاع الحرارة بزيادة النشاط الصناعي البشري لان الشمس هي مصدر الطاقة، وترسل إشعاعاتها بطول معين إلى الأرض، التي تتلقاها بموجات معينة، ثم تصدر انبعاثات بطول معين وتتجه إلى الفضاء الخارجي، لكن النشاط الصناعي الإنساني المتزايد، أدى إلى زيادة إطلاق الغازات الدفيئة، المكونة من ثاني أوكسيد الكربون وغاز الميتان hc4 وثاني أوكسيد الأزوت، والتي شكلت حاجزا يحول دون وصول الانبعاثات التي تطلقها الأرض نحو الفضاء الخارجي، وأدت إلى ارتفاع درجة الحرارة، أو ما يعرف بالانحباس الحراري.
"ولعت في موسكو"
لكن مصائب الحرائق وغيرها من الاضرار التي تتسبب فيها موجات الحر غير المسبوقة تبقى مقبولة أمام درجات الحرارة التي تشهدها دول العالم، وعلى رأسها العاصمة الروسية موسكو حيث تنتشر الحرائق في أنحاﺀ البلاد. وأودت هذه الحرائق بحياة 50 شخصاً على الأقل ودفعت الى إجلاﺀ آلاف الاشخاص عن منازلهم مع احتدام الحرائق في أشد فصول الصيف حرارة منذ بدﺀ تسجيل درجات الحرارة قبل اكثر من 100 عام، مع الاشارة الى ان لهيب الحرائق اشعل السباق الى الكرملين بين الرئيس الحالي ديميتري ميدفيدييف ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين.
وتبقى نصائح اهل الطب للمواطنين بعدم التعرض المباشر لأشعة الشمس في اوقات الذروة والإكثار من تناول المياه والسوائل، وتجنب خروج الأطفال من المنازل وتعرضهم لأشعة الشمس.
واخيراً لا بد من السؤال هل ان المنطقة بدأت تعاني من جفاف وفيضانات، مع تراجع نسبة المتساقطات، ما يشكل خطراً على أهم موارد لبنان المائية وهو مخزون المياه العذبة؟ فجبال لبنان تشكل خزان مياه ضخماً، بسبب بنيتها البيولوجية، وهذا الخزان يمتلئ على الدوام من المتساقطات (أمطار وثلوج، ندى) بحيث يؤدي التراجع في منسوب الأخيرة إلى تدني منسوب الأنهار وجفاف الينابيع، وبالتالي يصبح البحث عن مصادر المياه شبيهاً بالتنقيب عن النفط في لبنان!